ظهر في شهر أكتوبر الماضي تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2003، وهو العدد الثاني بعد التقرير الأول الذي ظهر في يوليو سنة 2002، والذي حظي باهتمام إعلامي كبير· وكلا التقريرين يصدران عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بالتعاون مع الصندوق الاقتصادي والاجتماعي العربي للتنمية·
وأهم ما يميز التقريرين ويشرح إلى حد كبير الاهتمام الإعلامي الشعبي بهما هي النظرة النقدية، والتي تدعمها -خاصة في التقرير الأول- إحصائيات مهمة تقوم بمسح قطاعات مهمة من الوضع العربي الحالي· هذه النظرة النقدية الكلية كانت واضحة جداً في التقرير الأول الذي كشف عن انجازات عديدة حققتها مختلف الدول العربية وبخاصة في مجالات الصحة والتعليم، ولكنه أكد بالذات على عدد كبير من الإخفاقات التي تميز الوضع العربي الحالي، مثل تدني إنتاجية العامل العربي النسبية بالمقارنة بعام 1960· فمثلاً كانت إنتاجية هذا العامل في سنة 1960 هي 32% من إنتاجية العامل في أميركا الشمالية، ولكنها بعد ثلاثين عاماً، أي في سنة 1990 انخفضت تقريباً إلى النصف، أي 19% فقط· والصورة نفسها تتأكد عندما نقارن وضع المنطقة العربية بالنمور الآسيوية· ففي عام 1960 وبالنسبة للناتج المحلي للفرد كان المعدل العربي أعلى من مثيله في النمور الآسيوية، ولكن في سنة 1990 تضاءل إلى نصف مثيله في كوريا الجنوبية· وهكذا تتراكم المشكلات· فمثلاً بلغت البطالة السافرة -وليست المقنعة- 12 مليون عاطل من قوة العمل العربية في عام 1995، أي حوالى 15% من هذه القوة، ولكنها تزيد بحوالى الثلثين في 15 عاماً، لتبلغ 25 مليوناً بحلول 2010، وهذا في الواقع تقدير محافظ للغاية· ولا عجب إذاً أن تؤدي هذه المشكلات الاقتصادية بدورها إلى مشكلات اجتماعية، حيث يعيش حوالى 20% من سكان المنطقة العربية على أقل من دولارين في اليوم، ويؤدي هذا الوضع إلى الإحباط العام، خاصة بين الشباب الذين يشكلون حوالى نصف سكان المنطقة العربية· وبدلاً من أن يصبح هؤلاء قوة دافعة، يحاولون في الواقع الهروب من هذا الموقف وهجر أوطانهم·
ولم يقف هذا التقرير الأول عند حد الرصد، بل تعدّى رصد هذه الأعراض إلى محاولة شرحها للوصول إلى أسباب العلة، فأرجع الإخفاقات العربية إلى ثلاثة عناصر أساسية هي: الافتقار إلى المعرفة في المجال العلمي والثقافي· عدم تمكين المرأة أو دمجها في عملية التنمية، ثم ثالثاً الافتقار إلى الحرية· وبالنسبة لهذا العنصر الثالث، أوضح التقرير أنه على رغم الاختلاف بين الدول العربية فيما يتعلق بالتعددية الحزبية، كحرية الرأي والتعبير، وحرية تكوين الروابط المدنية كالنقابات أو جمعيات النفع العام، إلا أن الوضع العربي العام يعتبر متدنياً بالنسبة لأجزاء كبيرة من العالم النامي نفسه. ولا يزال مستوى المشاركة السياسية ضعيفاً خاصة بالنسبة للمرأة، ولا يزال الجزء الأكبر من المنطقة العربية بعيداً عما يسمى (الحكم الصالح) بما يتضمنه من شفافية وحكم القانون والمساواة بين السكان وبناء التوافق، والكفاءة، والرؤية الاستراتيجية·
كان التقرير صريحاً وناقداً، معتمداً في ذلك على البيانات الإحصائية المفصلة. حظي باهتمام كبير في جميع وسائل الإعلام العربية والدولية، المقروءة والمسموعة، بل تعدى تأثير التقرير الناحية الإعلامية إلى تشكيل القرار السياسي وفي أكثر دول العالم تقدماً، سواء في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة· فقد ذكره أكثر من مرة ريتشارد هاس عندما كان مديراً للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية وذلك في معرض حديثه عن الإصلاحات المطلوبة في المنطقة العربية عشية غزو العراق، كما فعل الشيء نفسه الرئيس بوش لتبرير السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط· ولم يفت هذا الأمر على كولن باول عندما قدّم مبادرته الشهيرة منذ أكثر من عام للنهوض بهذه المنطقة· وأكد كل هؤلاء المسؤولين في اقتباساتهم من هذا التقرير على أنهم لا يبالغون فيما يتعلق بسوء الأوضاع العربية، طالما أن هذا التقرير لا يأتي فقط من الأمم المتحدة ومؤسسة عربية ولكن صاغ كتابته مثقفون عرب، أي باختصار شديد (وشهد شاهد من أهلها)· ولقد أدى هذا الاقتباس المتكاثر والتبريري للتقرير من جانب المسؤولين الأميركيين إلى هجوم بعض المثقفين العرب على التقرير على أنه (موحى به) من الخارج لتبرير سياسات غربية معينة.
بسبب هذه الاحتفالية الإعلامية بالتقرير الأول في 2002، وعندما ظهر التقرير الثاني في أكتوبر الماضي بعنوان (نحو إقامة مجتمع المعرفة) في العالم العربي كنت من أشد المتحمسين لقراءاته. فما هي نتيجة هذه القراءة؟