أعلم أن الأمنيات لا تغير واقعاً ولا تحقق مطلباً ، فهي سلاح الضعفاء الذين ذكّرهم أمير الشعراء أحمد شوقي بأن الدنيا صراع حين قال (وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا) وأخشى وأنا استشهد بقوله أني أدل عليه فيتهم بالإرهاب، ولا سيما أنه القائل في قصيدة أخرى (وللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق)· ذاك أن قوانين العصر الجديد لا تسمح للشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال أن تنال حرية حمراء أو بيضاء، بل إن كثيراً من الدول المستقلة وذات السيادة باتت حريتها اليوم صفراء باهتة حين عاد إليها الاحتلال بأشكال ومسميات جديدة· ولم تعد كلمتا الاستقلال والسيادة الوطنية تعنيان الدلالة الحقوقية لمعناهما في عصر تتسلط فيه إرادة قطب واحد على دول وأمم العالم، فتأمر وتنهى وتتدخل في شؤون الآخرين وخصوصياتهم، إلى درجة أنها تفصِّل لهم ما يناسبها من أنظمة حكم، وتسن لهم ما يوافق هواها من قوانين، وتضع لهم ما يسلخ ثقافتهم ويوطن ثقافتها في مناهج التعليم، وتحدد لهم ما ينبغي أن يقولوه في وسائل إعلامهم ومحاضراتهم ونواديهم الفكرية· هذا عدا عن كونها تتدخل في عدد جيوشهم وعدتها وأسلحتها حيث تمنع عن الآخرين ما تسمح به لنفسها ولحلفائها، فهي وحدها التي تمتلك أسلحة قادرة على إبادة البشرية في بضع دقائق، ولا تسمح للضعفاء بامتلاك أية وسيلة لتحقيق توازن يحد جنوناً محتملاً أو حماقة مفاجئة قد يقدم عليها من يملكون الأسلحة المدمرة، وإن دعوتهم إلى نزعها والتخلي عنها فإنهم يستكبرون ويرفضون .
ونحن مضطرون بدواعي التفاؤل الذي لا نريد أن نفقده إلى أن نستهل العام الجديد بالأمنيات، وأمنياتنا ليست أنانية، فهي الأمن والسلام لنا ولكل أبناء الإنسانية، وحسب البشر ما يلقون من عناء وشقاء وهم يواجهون الفقر والمرض والكوارث الطبيعية في كل أصقاع الأرض· وقد روعنا العام الجديد بزلزال في إيران حصد عشرات الآلاف، و بتحطم طائرة لبنانية، وأخرى مصرية، و المفارقة أن المجتمع الإنساني يتكاتف عند وقوع الكارثة، ويتسامى فوق الخلافات، فتنهال المساعدات على المنكوبين حتى من خصومهم، ويظهر الجوهر الإنساني الذي يوحد البشر· وقد رأينا ذلك في موقف الولايات المتحدة ذاتها من كارثة إيران· ولكن البشر سرعان ما يتخلون عن التسامي، ويعودون إلى العداوة والبغضاء .
إن أحر أمنياتنا في العام الجديد هي أن يكف الإسرائيليون عن قتل الفلسطينيين ، وتدمير منازلهم، وعن تهديد المنطقة بما يمتلكون من أسلحة نووية مدمرة، وأن يقتنعوا بأن العنف لا يجلب إلا المزيد من العنف، وأنهم لن يطيقوا صبراً على صبر الفلسطينيين وإصرارهم على استعادة حقوقهم، وأن يعترفوا بأن إنهاء الاحتلال هو الحل الوحيد الذي يوفر الأمان للمنطقة.
لكن هذه الأمنية تبدو بعيدة المنال، فإسرائيل تمعن في العنف والإرهاب المنظم، وما فعلته مع مطلع العام الجديد في نابلس وغزة وسواهما دليل على إصرارها على سياسة الإبادة البطيئة للفلسطينيين، وهي كما يبدو واضحاًً تخاف من السلام لأنه سيجبرها على أن تعيد ما اغتصبته من أراض و حقوق، بينما هي تسرق المزيد وهي تبني جدار الفصل العنصري الذي يشكل ردة حضارية كبرى في تاريخ الإنسانية· كما أنها تخطط لتهجير المزيد من الفلسطينيين، وتصعد بناء المستوطنات في الجولان، وتسعى إلى نسف كل ما تم الاتفاق عليه عبر سنوات من المفاوضات على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام· إسرائيل غير آبهة كعادتها لقرارات مجلس الأمن و الجمعية العامة ومستهينة بالشرعية الدولية، وقد بدت مطمئنة تماماً إلى أن العرب قد ازدادوا ضعفاً بعد أن تمركزت القواعد العسكرية الأميركية في أرضهم، وبعد أن احتلت الولايات المتحدة العراق، وبعد أن فقدت القوى الرئيسية في الأمة قدرتها على الفعل، وبعد أن تسرب الضعف إلى المجتمع الدولي كله، فباتت دول كبرى تطأطىء الرأس أو تمالىء الأقوياء خوفاً على مصالحها، ولم يبق غير الشعوب تتظاهر وتستنكر أن تتمكن عصابة من الأقوياء من السيطرة المطلقة على مقدرات العالم كله، وأن يكون بيدها حقوق شعوب و مصير أمم، وأن تبيح لنفسها تغيير أنظمة وفرض أنظمة ، ورسم خرائط، وشطب دول، وأن تسن قوانين تسري على البشرية كلها مستثنية نفسها وجنودها .
وبما أن القوة تستدعي الغرور وتُغيّب العقل والحكمة، فإن الغرور الإسرائيلي يحجب عن قادة إسرائيل رؤية حقيقة مرة وهي أن قوة إسرائيل مستمدة من خارجها وليست قوة ذاتية، وأن اطمئنانها إلى ضعف العرب قصير الأمد· فلئن كان العرب اليوم في هوة ضعف، فإنهم لن يبقوا في الهوة أبد الدهر، فالتاريخ سجال، والعرب يقولون (ما بين غمضة عين وانتباهتها، يبدل الله من حال إلى حال)· وقد شهد جيلنا سقوط إمبراطوريات، وزوال دول عظمى، وتبدلاً مدهشاً في موازين القوى الدولية· وقد يكون مبعث طمأنينة إسرائيل أن الداعمين لها ملتزمون بوعدهم بأنها (وجدت لتبقى) وهم سادة الدنيا اليوم، ولكنهم يحققون لها البقاء بالقوة والإرهاب، وبإضعاف العرب وإذلالهم، وعب