كان لأنباء الهزة الأرضية التي ضربت مدينة بام الإيرانية مؤخرا، وقع نفسي على الجمهور الأميركي، لا يقل مأساوية وحزنا عن ذلك الشعور الذي انتاب بقية شعوب العالم الأخرى، جراء ذلك الزلزال المدمر. فكم كانت صدمة الأميركيين كبيرة وعميقة عندما أدركوا قدرة كارثة طبيعية واحدة على أن تخلف وراءها عشرات الآلاف من القتلى، وأكثر من ذلك من الضحايا والمشردين بلا مأوى، بين ليلة وضحاها! كان طبيعيا أن يشعر الأميركيون بالرغبة في المساعدة ومد يد العون للضحايا والأبرياء، والتعاطف معهم في محنتهم على نحو أو آخر. ولكن بدا للوهلة الأولى أن سوء العلاقات بين واشنطن وطهران يشكل عائقا وحجر عثرة أمام تحقيق رغبة عامة المواطنين الأميركيين.
فمنذ عام 1979، وهو عام الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران، لم تعد تربط الولايات المتحدة الأميركية أدنى صلة دبلوماسية بإيران. بل فرضت واشنطن المزيد والمزيد من الضغوط والعقوبات الاقتصادية على طهران، في مسعى منها لتغيير السلوك السياسي للقيادة الإيرانية. وعلى الصعيد التشريعي، فقد سنت قوانين أميركية تنفي صفة الشرعية عن تقديم المساعدات، أيا كان نوعها لإيران. وقد وضعت السلطات الأميركية عينها وفتحتها تماما لمراقبة ورصد أي سلوك مخالف للقوانين والتشريعات التي تحرم التعامل مع طهران.
أكثر من ذلك فقد صعد الرئيس جورج بوش من حدة المواجهة الحامية أصلا مع طهران، عبر خطابه الذي ألقاه في شهر يناير من العام قبل الماضي 2002· ففي خطابه عن (حالة الاتحاد) ضم بوش اسم إيران إلى قائمة الدول الأخرى التي تضم كلا من العراق وكوريا الشمالية لما أسماه (محور الشر). وفي أعقاب الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق في شهر مارس من العام الماضي 2003، شاعت التكهنات باحتمال اتجاه أنظار الإدارة الحالية إلى إيران، بينما سرت الأنباء والتكهنات باحتمال توجيه ضربة عسكرية لطهران أيضا. ومع أن الإدارة الأميركية لم تعلن أية مخططات عسكرية في هذا المنحى, إلا أنها لم تقلل من حدة وشدة نبرتها تجاه إيران مطلقا. ربما كان الاختلاف الوحيد الذي طرأ على لهجة الإدارة الحالية تجاه طهران، قد حدث في أعقاب إعلان الحكومة الإيرانية عن اعتزامها الخضوع لإجراءات التفتيش الدولية وتوقيعها البروتوكولات الإضافية الخاصة بمعاهدة حظر نشر الأسلحة النووية. وحتى في هذه الحالة، فقد جاءت نبرة الإدارة الموجبة والمرتخية نوعا ما، مبطنة بانتظار الترجمة الفعلية لتلك النوايا الإيرانية المعلنة على أرض الواقع.
ولما كان ذلك هو واقع الحال بين البلدين، فقد كانت مفاجأة كبرى غير متوقعة، أن تعلن إدارة بوش استجابتها لكارثة زلزال بام، وتعرب عن رغبتها في إرسال المساعدات الإنسانية للضحايا هناك. بالفعل وفي غضون أسبوعين لا أكثر بدأت الطائرات الأميركية العملاقة المحملة بمواد الإغاثة وأطقم العمل الإنساني والأدوية والمعدات الطبية تهبط في المطارات الإيرانية. وكان للاستجابة الفورية من قبل المسؤولين الإيرانيين لتلك المبادرة الإنسانية الأميركية، أثرها في شعور البعض في الولايات المتحدة، بأمل أن تبعث كارثة الزلزال، نوعا من الدفء في صقيع العلاقات الرسمية بين البلدين، وهو موسم شتاء قارس طويل، دام لأكثر من عقدين من الزمان· وفي الجانب الإيراني نفسه، ساد شعور مشابه. إذ أعلن محمد رضا خاتمي -شقيق الرئيس الإيراني خاتمي- أن النوايا الطيبة لا تقابل إلا بنوايا طيبة مثلها. وأكد أن البادرة الأميركية ستقابل بالمثل. وفي واشنطن علق كولن باول وزير الخارجية الأميركي، في معرض رد له عن سؤال وجهته له صحيفة (واشنطن بوست) قائلا إن بلاده ستفتح أبوابها أمام أية مفاوضات محتملة مع طهران.
ولكن ما هي إلا بضعة أيام لحقت توالي تصريحات المسؤولين في الجانبين، وحتى تعكر صفو المياه وانقلب المزاج والنبرة واللهجة. فقد نعت وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي المبادرة الأميركية بأنها (إنسانية)، غير أنه أعرب عن أمله في أن ترفع واشنطن العقوبات التي ظلت تفرضها على طهران فورا ودون إبطاء. أما عندما علق الرئيس بوش من جانبه على مجرى الأمور بين بلاده وإيران، فقد قال إنه سعيد بأن أرسلت أميركا المساعدات الإنسانية إلى إيران، قدر سعادته بقبول الأخيرة للمساعدات الأميركية. ولم ينته التعليق عند ذلك الحد، بل مضى إلى القول أيضا: إن على طهران أن تستمع لصوت مواطنيها الذين طال توقهم للحرية. كما أن على المسؤولين الإيرانيين أن يسلموا عناصر تنظيم (القاعدة)، الموجودين رهن الحكومة الإيرانية . هذا إلى جانب ضرورة التخلي عن البرنامج النووي.
وهكذا فقد عول كل من الطرفين، على المطالب المسبقة التي ظل يثيرها كشرط لا بد منه لحدوث أي تحسن في العلاقات الثنائية بينهما. ومما لا شك فيه أن كليهما كان على غاية الحذر من أن يرد على لسانه ما يشي باقتناعه بأن ليس في وسع هذه البادرة الإنسانية الوحيدة، أن تذيب جليد العلاقات الطاغي بينهما، أو أن تحدث تحولا دراماتيكيا في السياسات المتبناة من