يدور اليوم جدل حول إحلال الديمقراطية في دول الشرق الأوسط الإسلامية، وهو جدل يتركز في أكثر الأحيان على ما إذا كانت هذه المنطقة (جاهزة للديمقراطية)· وهناك أيضاً السؤال المشروع الآخر الذي يقول: (هل الولايات المتحدة مستعدة لتحمل الديمقراطية؟)·
من الواضح للعيان أن هناك رغبة في تحقيق الأنظمة المؤسّسة على الحريات المضمونة، وسيادة القانون، وعلى العمليات السلمية المعنية بانتقال السلطة.
وفي نقاش حول الديمقراطية انخرط فيه مع صحفيين مصريين في الآونة الأخيرة، تلقّى السفير الأميركي في القاهرة (ديفيد ويلش) سؤالاً من أحد الحاضرين قال فيه: (إذا انتهى بنا المطاف في آخر الأمر إلى الديمقراطية وإلى قيام أنظمة منتخبة لكن غير مذعنة للمصالح الأميركية، فماذا ستفعل الولايات المتحدة عندئذ؟)!
فأجاب السفير قائلا: (لكن هذه الحالة موجودة أمامنا في كل أنحاء العالم. فهناك حكومات ديمقراطية ومنتخبة تختلف معنا في كل شيء، بدءاً من الأغذية المعدّلة وراثياً ووصولاً إلى (مسألة المحتجزين في خليج) غوانتامو. لكننا لا نفعل حيال ذلك أي شيء سوى الانخراط معهم في النقاش)·
وربما يكون سعادة السفير محقاً في قوله إن الولايات المتحدة تتحمل وجود الأصوات المنشقة القادمة من الخارج، ولاسيّما تلك التي تناقش مسائل كمسألة المحتجزين في قاعدة (غوانتانامو) البحرية، والتي تدور حولها خلافات مفتوحة وعلنية في داخل الولايات المتحدة. غير أن المأزق العسير في الشرق الأوسط من شأنه أن يكون مختلفاً عن ذلك.
ومن شأن الأنظمة الديمقراطية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط أن تواجه جموع السكان الذين يشعرون بأنهم واقعون تحت وطأة الإذلال والإهانة من جهة الغرب، وبأنهم ضعفاء أمام السياسيين الذين يستغلون مشاعر السخط العميق الراسخ حيال إسرائيل. ومن شأن تلك الأنظمة أيضاً أن تواجه الانقسامات الإثنية والدينية وكذلك التدخل الأجنبي، والنفوذ الغربي على وجه الخصوص. ومن الجائز في فترة تشدد فيها الولايات المتحدة على الحرب ضد الإرهاب أن تكون لدى أنظمة الحكم الجديدة في المنطقة تعريفات مختلفة للإرهاب والإرهابيين. وهنا من الممكن أن تبرز الحركات الإسلامية القوية التي تعرضت زمناً طويلاً للقمع من جهة الحكومات في مصر وغيرها من دول العالم العربي. ومن الممكن أيضاً للسياسات التي تتبناها أنظمة الحكم الجديدة أن تتحدى على نحو مباشر وجود القوات الأميركية في المنطقة، وأن تتحدى أيضاً المساعي الرامية إلى التخلص من أسلحة التدمير الشامل كما تتحدى السياسة الأميركية حيال العملية السلمية الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ ومن الممكن أيضاً لتلك الأنظمة الجديدة أن تتحدى ما تطلقه الولايات المتحدة من مبادرات معنية بحقوق الإنسان.
وفي سياق خططها المعنية بعملية انتقال السلطة في العراق، لا تدّخر سلطة الائتلاف هناك أية جهود تهدف إلى ضمان عدم بروز نظام حكم من ذلك النوع. ولذلك فإن من شأن الالتزام الأميركي بالديمقراطية أن يفقد المصداقية بسرعة إذا كانت المساعي الرامية إلى تحقيق انتقال السلطة مترافقة مع مؤامرات ومكائد كثيرة تهدف إلى إنتاج أنظمة حكم صديقة للولايات المتحدة. وقد خاض العراق تلك التجربة من قبل حين هيمن النفوذ البريطاني على النظام الملكي قبل الثورة التي اندلعت في عام 1958·
لكن هناك منهجاً أميركياً آخر ربما يقول :(سوف نعمل ونتعاون مع أي نظام حكم يتولد عن انتخابات ديمقراطية ومهما كانت ماهيته)· غير أن التجربة التي حدثت في الآونة الأخيرة توحي بخلاف ذلك، وتنبئ برفض الأمر من جهة الكونغرس والدوائر السياسية في واشنطن وكذلك من جهة قطاع كبير من الجمهور الأميركي، أياً تكن ماهية الإدارة التي تتولى زمام الحكم في واشنطن. وسبب ذلك أن تلك الجهات كلها لن تتحمل وجود سياسات لدى البلدان الأخرى من شأنها أن تكون بوضوح تهديداً للمصالح الأميركية الأساسية.
وقد قوبل رفض فرنسا للعمل العسكري الأميركي الاستباقي ضد العراق بردود صبيانية من جهة الأميركيين فقيل إن البطاطا المقلية الفرنسية صارت مقالي الحرية! وقد تم توجيه الكلمات الغاضبة الحانقة إلى الألمان جزاءً لهم على معارضتهم لأميركا. وقد شعر الأميركيون بالغضب والاستياء على وجه الخصوص عندما رفضت حليفتهم التقليدية تركيا السماح للقوات الأميركية باستخدام الأراضي التركية للعبور إلى العراق. ومن المعلوم أن العملية الديمقراطية كانت جارية وناشطة في كل حالة من تلك حالات المعارضة المذكورة آنفاً.
أما في البلدين اللذين ترتبط فيهما المصالح الأميركية ارتباطاً مباشراً بمسألة تطور الديمقراطية -أي في العراق وأفغانستان- فلم يتم حتى الآن تشكيل حكومة جديدة في أي منهما. ولذلك لم تبرز حتى الآن مسألة السياسة الخارجية في هذين البلدين في ما بعد انتهاء الاحتلال. لكنها عندما تنشأ وتبرز، فإن من الممكن أن تبرز معها مسألة التعامل مع القوات الأميركية، ومسألة دور الإسلام، ومسألة المواقف حيال إسرائيل. ومن المؤكد أن تجري متابعة كل مسألة