(لقد تربيت، مثلي في ذلك مثل معظم الرجال الإنجليز، على احترام حرية التجارة، ليس فقط باعتبارها مذهباً اقتصادياً، يجب ألا يشك رجل رشيد وعليم فيه·· ولكن باعتبارها تمثل تقريباً جزءاً من قانون أخلاقي) هذا هو نص ما كتبه (جون مانيارد كينز) عام 1933، ولكن حتى في تلك المقالة التي كتبت منذ 70 عاما تقريبا، نجد أن (كينز) نفسه، كان قد بدأ يطرح أسئلة بشأن بعض الافتراضات المؤيدة لحرية التجارة· والسؤال المطروح أمامنا نحن الآن هو: هل البراهين التي تم تقديمها للتدليل على صحة مذهب حرية التجارة منذ قرنين من الزمان، قد قُوضت بواسطة التغييرات التي غدت واضحة الآن في الاقتصاد العالمي الحديث؟
هناك مثالان حديثان يدللان على الهموم التي تنتاب الاقتصاديين الأميركيين في الوقت الراهن: الأول، خلال السنوات الثلاث القادمة، سوف تقوم إحدى شركات الأوراق المالية الكبرى العاملة في نيويورك باستبدال هيئة موظفيها من المهندسين الأميركيين المتخصصين في مجال البرمجيات البالغ عددهم 800 مهندس، والذين يحصل الواحد منهم على دخل يصل إلى 150 ألف دولار أميركي كل عام، بطاقم مماثل من الهنود الذين لا يقلون كفاءة، في حين يتقاضى الواحد منهم 20 ألف دولار أميركي فقط في العام· المثال الثاني، أن عدد أخصائيي التصوير بالأشعة في الولايات المتحدة سوف يتقلص إلى حد كبير خلال خمس سنوات من الآن، وذلك لأن البيانات المستخلصة من التصوير بالرنين المغناطيسي، أصبح من الممكن إرسالها عبر الإنترنت إلى أخصائيي أشعة آسيويين قادرين على تشخيص المشكلة بجزء من التكلفة الحالية· هذان المثالان يشيران إلى حدوث تحول مثير في الاقتصاد العالمي بسبب ثلاثة تطورات رئيسية هي:
الأول، إن الاستقرار السياسي أصبح يسمح للتكنولوجيا بالتدفق من مكان إلى آخر في العالم على نحو أكثر حرية·
الثاني: أن الأنظمة التعليمية المطورة قد أصبحت تنتج عشرات الملايين من العاملين الأذكياء الطموحين في العالم النامي، وخصوصاً في الهند والصين، إن وسائل الاتصال المتطورة والرخيصة، قد جعلت من عملية إعادة توزيع عدد كبير من القوة العاملة في أماكن أخرى· وإدارتهم بكفاءة، مسألة مجدية من الناحية العملية·
إننا مهمومون الآن، باحتمال دخول أميركا إلى عهد اقتصادي جديد، يواجه فيه موظفوها وعمالها منافسة عالمية مباشرة في كل مجال من المجالات الوظيفية تقريباً· إن أي عامل لا تتطلب وظيفته تفاعلاً مباشراً ويومياً مع الغير، أصبح الآن يواجه خطر إمكانية استبداله بعامل آخر، لا يقل كفاءة، يقطن على بعد آلاف الأميال·
والأميركيون سيفقدون وظائفهم ليس بسبب المنافسة مع الشركات الأخرى، ولكن بسبب الشركات المتعددة الجنسيات، ذات الجذور الأميركية غالباً، التي تقوم بتخفيض التكاليف، عن طريق القيام بنقل عملياتها إلى بلاد توجد فيها عمالة رخيصة الأجر·
ومعظم الاقتصاديين يريدون النظر إلى هذه التغييرات من خلال المنظور الكلاسيكي لمبدأ (التجارة الحرة)، وبالتالي نراهم يقومون بوصف أي تحد على أنه نوع من الحمائية، ولكن هذه التغييرات الجديدة مع ذلك تضع بعضاً من الافتراضات الرئيسية التي تدعم مذهب التجارة الحرة موضع المساءلة·
إن القضية الخاصة بحرية التجارة تستند على مبدأ (الميزة النسبية) الذي جاء به عالم الاقتصاد البريطاني (ديفيد ريكاردو). يقوم هذا المبدأ على فكرة هي أن كل دولة من الدول يجب أن تتخصص في الشيء الذي تستطيع أن تقوم به أفضل من الدول الأخرى، ثم تقوم بعد ذلك بمبادلة ما لديها للحصول على احتياجاتها من الدول الأخرى· فإذا ما ركزت كل دولة على (ميزتها النسبية) فإن إنتاجيتها سوف تصل إلى أعلى مستوى، وبالتالي ستكون لكل دولة حصة من الكعكة الاقتصادية العالمية الأكبر حجماً·
مع ذلك، فإن (ريكاردو) عندما قال إن التجارة الحرة سوف تنتج مكاسب سيتم اقتسامها من قبل كافة الدول، افترض أن الموارد المستخدمة لانتاج السلع والبضائع، والتي أطلق عليها (عوامل الإنتاج) لن يكون من الممكن نقلها بسهولة عبر الحدود الدولية· على هذا فإن (المزايا النسبية) يمكن أن تتقوض إذا ما كان من الممكن نقل (عوامل الإنتاج) إلى أماكن أخرى، أو تحديداً إلى الأماكن التي تستطيع فيها أن تحقق أقصى إنتاجية لها، وعندما قدم (ريكاردو) نظريته في بدايات القرن التاسع عشر، لم يكن من الممكن نقل (عوامل الإنتاج) وهي القرية، والمناخ، والجغرافيا، والعمال إلى دول أخرى· أما اليوم فإننا نجد أن عوامل الإنتاج الحيوية وهي رأس المال والتكنولوجيا، والأفكار يمكن أن تنتقل من مكان إلى مكان آخر عبر العالم بمجرد كبسة على زر·
إن عالمنا الحالي عالم يختلف عن ذاك الذي تخيله (ريكاردو)، فعندما تقوم الشركات الأميركية باستبدال عمالها وموظفيها بعمالة أجنبية أرخص تكلفة، كي تبيع بأسعار أرخص في الأسواق المحلية، فإنه يصبح من الصعب أن نجادل بالقول إن هذه هي الطريقة التي يفترض أن تعمل بها التجارة· لقد قمنا في الماضي بدعم سياسات التجارة الحرة· ولكن إذا ما كانت التجارة الحرة سوف