نحن نعيش في عصر العولمة! هذه حقيقة لا شك فيها، وبغض النظر عن الخلافات المحتدمة على مستوى العالم حول هذه الظاهرة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس!
وهذه الخلافات لها مستويات متعددة· فهناك بين الدول الصناعية الكبرى والدول النامية والتي وقعت كلها معاهدة منظمة التجارة العالمية، خلافات حول عديد من نصوص هذه المعاهدة التي أريد منها حراسة مبدأ حرية التجارة بلا قيود ولا حدود· وهذه النصوص من وجهة نظر أهل الجنوب صيغت لمصلحة أهل الشمال في الأساس، وعلى حساب مستقبلهم الاقتصادي، مما قد يعطل قدراتهم على المنافسة العالمية التي ستفتح أبوابها قريبا· وهذا الصراع بين الدول الصناعية الكبرى والدول النامية يدور في دوائر مختلفة منها دائرة الحوار المباشر في المؤتمرات الخاصة بالمنظمة ذاتها، ومنها أيضا ما يدور في مجموعة الـ 15 التي أجادت في بياناتها تشخيص المشكلات التي أحدثتها العولمة، وأكثر من ذلك قدمت البدائل المدروسة لتعديل النصوص المجحفة·
غير أن الصراع تقوده أيضا مؤسسات المجتمع المدني العالمي والتي شكلت حركة أطلق عليها (ضد دافوس)، إشارة إلى المؤتمرات الشهيرة التي تنعقد في دافوس والتي تعتبر قلعة العولمة الكبرى، بما تضمه مؤتمراتها من كبار رجال الأعمال والاقتصاديين والسياسيين والمثقفين والإعلاميين·
وبغض النظر عن هذه الصراعات الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية الكبرى التي تدور حول العولمة بتجلياتها المختلفة، السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية، فهناك حقيقة أساسية برزت بوضوح في نهاية القرن العشرين وفي بداية الألفية الثالثة· وهذه الحقيقة هي أن المشكلات الإنسانية -بحكم أننا حسب التعبير الذائع- نعيش في قرية واحدة، وبفعل ثورة الاتصالات الكبرى قد تعولمت! بمعنى أن هناك مشكلات تواجه الإنسانية كلها، ولا فرق في هذا المجال بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية في الجنوب· ومن هنا أصبحت الدعوة إلى حوار الثقافات ضرورية، لأن كل ثقافة من الثقافات التي يزخر بها العالم وفي ضوء التنوع البشري الخلاق، يمكن أن تسهم بأفكارها والحلول التي يقترحها ممثلوها المعتبرون الذين يعبرون عن التيار الرئيسي فيها في حلها·
ومما لا شك فيه أن هناك تطورات عالمية متعددة أدت إلى بروز إشكاليات Problematiques معرفية جديدة ومشكلات واقعية عالمية، تحتاج إلى جهود مخططة في مجال حوار الثقافات لمواجهتها·
ولعل الخبرات الثمينة التي تحصلت من مسار القرن العشرين والتفاعلات الإيجابية والسلبية التي تمت في رحابه، أحد الأسباب في نشوء الحاجة إلى تفكير إنساني وفق نظريات ومناهج تتجاوز ما طبق في عصر الحداثة· ولعل ما يكشف عن هذا الموقف الإنساني الجديد هو بروز الوعي الكوني بمشكلات الإنسانية الحادة، وأبرزها موضوع البيئة ومخاطر تلوث الكوكب· وقد أدي بروز هذا الوعي الكوني بمؤسسات قديمة مثل هيئة اليونسكو، وبمؤسسات حديثة مثل جامعة الأمم المتحدة في طوكيو، للبحث بطرق جديدة تعتمد في المقام الأول على التفكير الجماعي، من خلال استطلاع آراء أبرز العقول في مختلف التخصصات العلمية وحقول المعرفة، حول تشخيص الوضع الإنساني الراهن، والتماس أكثر الحلول فاعلية لمواجهة كل من الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية·
وكمثال بارز لهذه الجهود يمكن القول إن المؤتمر العالمي الذي نظمته هيئة اليونسكو منذ سنوات في باريس والذي كان عنوانه (حوارات القرن العشرين)، يعد نموذجاً فذاً لهذا التفكير الجديد، والذي يعبر في الواقع عن روح ما بعد الحداثة التي لم تعد تثق في مشروعية (النظريات الكبرى) والتي سادت القرن العشرين كالماركسية الجامدة، أو الرأسمالية المتطرفة، وذلك على أساس معرفي أصيل مفاده أنه ليس من حق أية نظرية مهما كان إحكام بنائها النظري أو دقة عمارتها الصورية أو جاذبية مبادئها التفسيرية أن تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، والذي يخول لها -بغير حق معرفي مشروع- أن تدفع الإنسانية كلها لكي تسير تحت راياتها الخفاقة!
في هذا المؤتمر تجمع مئات من العلماء والفلاسفة والأدباء والمثقفين لكي يناقشوا مشكلات الإنسانية، وظهرت بحوثهم ومداولاتهم من بعد في كتاب له دلالة عنوانه (مفاتيح القرن الحادي والعشرين)، نشرته اليونسكو بالفرنسية وظهرت له في بيروت مؤخرا ترجمة عربية·
ما هي الموضوعات الكبرى التي تصدى لها هذا المؤتمر العالمي الحاشد، والتي تصلح بامتياز لكي تكون كلها أو بعضها في أجندة أي حوار جاد للثقافات؟
يلفت النظر أولاً أن كلمة (عقد) تكررت في أكثر من مجال، فهناك دعوة لصياغة عقد طبيعي جديد، وعقد ثقافي جديد، وعقد اجتماعي جديد وعقد أخلاقي جديد· ووصف الجدة هنا له دلالة، لأن معناه أن العقود القديمة في كل هذه المجالات قد فقدت صلاحيتها نظراً لتغير الظروف العالمية، وبروز ظواهر جديدة لم تكن موجودة حين صيغت هذه العقود·
ولنأخذ على سبيل المثال المشكلة الأولى التي تعرض لها المؤتمر وهي استشراف المستقبل وعدم اليقين· والسؤال المطروح هنا ما هو مستقبل ال