الصورة التذكارية جاءت بمناسبة مرور خمسين عاماً على قيام أول مجلس وزراء سوداني منتخب (عام 1953)، وقد أقيم احتفال قومي دعت إليه رئاسة مجلس الوزراء الحكام الاحياء الذين تعاقبوا على حكم السودان على مدى نصف القرن الماضي وتلك خطوة أرادت بها الحكومة أن تؤكد استمرار سيرها الحذر على طريق الوفاق الوطني (وجمع الشمل عبر الجبهة الوطنية المتحدة التي ينصهر بداخلها المجتمع لتحقيق الاهداف الوطنية حتى يزول شبح الصراع من الساحة السياسية) كما عبر الفريق البشير·
كان الاحتفال الخمسيني مناسبة جمعت الرؤوساء الذين جلسوا على مقعد رئاسة الوزارة السودانية ورؤساء الدولة السابقين والرئيس الحالي الفريق البشير على طاولة واحدة· أمر نادر الحدوث إلا في السودان الفريد·· وعلى رغم ان الاحتفالية كان مقصوداً بها ان تكون ذات طابع احتفالي إلا أن ذكريات كثيرة قد تملكت اذهان كثير من المشاركين الذين كانت لهم أيام وصفحات في سجل مجلس الوزراء السوداني عبروا عنها -غالباً- باللطف المعهود·· ولعل أبلغ ما قيل في وصف الرؤساء الذين تعاقبوا في الجلوس على طاولة رئاسة الوزارة السودانية، ما جاء على لسان رئيس وزراء حكومة الانتفاضة الشعبية (ابريل 1985) الدكتور الجزولي دفع الله إذ قال إنهم جاءوا بطرق شتى إلى سدة الرئاسة، (بعضهم خرج من صناديق الاقتراع وخرج آخرون من صناديق الذخيرة)·
الصورة التذكارية التي اختتم بها المحتفلون بالذكرى الخمسين لقيام أول مجلس وزراء سوداني غاب عنها مؤسس المجلس الأول ورئيسه الخالد الذكر اسماعيل الأزهري وكل رفاقه الذين شاركوه المسؤولية في مجلس الوزراء السوداني الأول·· غيبهم الموت جميعاً لكن - وبحق- فإن وجودهم المعنوي كان أكبر حضوراً خلال ذلك الاحتفال وما سبقه من احتفالات أعياد الاستقلال (1 يناير) من كثير من الموجودين في الصورة التذكارية·
والصورة التذكارية كانت اشبه بلوحة تاريخية مثلت أياماً وحقباً لها في الذاكرة التاريخية السودانية معانيها التي تتعدى الأشخاص والرموز· فالناس لابد قد تذكروا ان هذه المناسبة التي دعوا إلى الاحتفال بها، (مناسبة تأسيس مجلس الوزراء السوداني الأول قبل خمسين عاماً) كانت ثمرة كفاح مرير وعنيد خاضته جماهير الشعب السوداني ضد المستعمر الأجنبي فمجلس الوزراء الأول المنتخب كان أول نتاج شجرة الديمقراطية التي اختارها السودانيون طريقاً لتنظيم حياتهم السياسية·
والمناسبة لابد قد أعادت لذاكرة السودانيين أن البرلمان الذي اختاروه بإرادتهم الحرة والحكومة الديمقراطية التي ائتمنوها على بلدهم قد جرى اغتيالها بعد أقل من عامين من استقلال بلدهم بواسطة انقلاب 17 نوفمبر العسكري، والذي فتح الطريق لسلسلة الانقلابات العسكرية التي حكمت وتحكمت في السودان لأكثر من ثلاثة عقود·
ولعل الصورة التذكارية والمناسبة التاريخية كانت أيضاً مناسبة للناس لأن يتأملوا في مسيرة وحصاد الخمسين عاماً التي مرت على بلادهم بكل ما حملت من تجارب مريرة وإخفاقات كثيرة ونجاحات قليلة ليتبينوا مواقع أقدامهم في المرحلة المقبلة وهي كما يعلمون مرحلة أشد خطورة وطريق أكثر وعورة من جميع ما سبقهما من مراحل·