تعرضت إدارة (بوش) لانتقادات شديدة بسبب إخفاقها في وضع خطة مسبقة خاصة بالمشكلات الكثيرة في عراق ما بعد الحرب، أو بسبب تخلفها عن تخصيص الأموال اللازمة لحلها· ويصر الناطقون باسم الإدارة، كما أصروا قبل الحرب، على أنه كان من غير الممكن معرفة ماهية التحديات التي قد تنشأ وماهية الإجراءات المطلوبة لمواجهتها·
وعلى رغم ذلك فإن التأمل الآن في ما توقعته السياسة الخارجية الأميركية من التدخل في العراق يثير الدهشة بسبب حجم المأزق الذي تواجهه المهمة الأميركية الآن، وكذلك بسبب مقدار ودقة التنبؤ به على النطاق العام·
أمامي الآن على طاولتي عشرات من الدراسات وأجزاء من الشهادات أمام الكونغرس حول الظروف المحتملة في عراق ما بعد الحرب، وقد تم إعدادها كلها قبل الغزو في المراكز الفكرية والبحثية المحسوبة على كل من خط اليسار وخط الوسط وخط اليمين على حد سواء، وقد أنجزتها فرق من الدبلوماسيين المخضرمين والخبراء المتخصصين في هذا المجال وعدد من الأكاديميين المستقلين·
لقد بلغ الإجماع درجة مدهشة، إذ أن كل تلك الدراسات والشهادات تصرّح بأن إعادة إعمار العراق ستكون عملية طويلة ومكلفة، وبأن العنف شيء مرجّح وقوعه، وكذلك بأن النوايا الحسنة تجاه الولايات المتحدة لن تدوم طويلاً·
فمن ذا الذي كان في وسعه التنبؤ بالتمرد السّني الذي يستنزف القوات الأميركية ببطء؟
إنه (أماتزيا بارام)، الخبير المعروف في الشؤون العراقية· وفي ورقة بحث له شملت مسحاً تم نشره في (معهد واشنطن للسياسة حيال الشرق الأدنى) في سبتمبر 2002، تنبأ (بارام) بأن (الجنود الأميركيين سيكونون هدفاً مثالياً للخلايا البعثية السرّية ولإرهابيي منظمة (القاعدة) والأصوليين الشيعة)· واستنتج (بارام) أن الولايات المتحدة (ستقع في مأزق عسير:فإذا قامت بإجلاء قواتها بعد الإطاحة بصدّام على الفور، فإنها ستعجز عن ضمان استقرار النظام الجديد· لكن بقاء القوات الأميركية في المدن العراقية سيعرّضها في أية حال للأذى)·
وقد حّذرت (فيب مار) أيضاً، وهي واحدة من كبار المتخصصين في الشأن العراقي، من مغبّة التعرض لنكسة وطنية، وقالت أمام (لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس) قبل عشرة أيام من بدء الحرب، إن (بعض المقاومة سيطفو على السطح) في غضون ستة أشهر أو سنة· وهذا يضعنا في مأزق، وسنكون مضطرين إلى القبول بتسويات وتنازلات· وإن تحقيق تغيير سياسي واجتماعي حقيقي أمرٌ من شأنه أن يستغرق وقتاً· لكن إطالة مدة بقائنا (في العراق) تعني أننا سنخاطر أكثر بتوليد الاستياء الوطني والمعارضة)·
وما كان لمناهضة الاحتلال الأميركي في العراق أن تكون شديدة جداً إلى ذلك الحد لو أن إدارة الاحتلال لم تعمد إلى حلّ الجيش العراقي- وهو خطأ حذّر من الوقوع فيه العديد من الدراسات التي أجريت قبل الحرب·
وفي هذا قالت لجنة يرأسها السفيران الأميركيان السابقان (إدوارد جيرجيان) و(فرانك وايزر): (إن الجيش من شأنه أن يكون ضامناً للسلام والاستقرار)·
ولم يتبين أيضاً في نهاية المطاف أنه كان من الصعب التنبؤ بمقدار تكلفة الحرب وعدد القوات اللازم· وقد قال تقرير أعدّه (المركز المعني بالعلاقات الخارجية) إنه ربما تكون هناك حاجة إلى ما بين 75 إلى 200 ألف جندي أميركي· لكن عدد الجنود الأميركيين الموجودين الآن في العراق يبلغ 130 ألفاً· وقد أكّد المسؤول السابق في الخارجية الأميركية (جيمس دوبينز)، في إحدى حواشي التقرير، على أن (هذا ليس التزاماً تستطيع الولايات المتحدة لوحدها أن تقدم له أسباب الاستمرار لفترة طويلة)· أما في ما يتعلق بتكلفة الحرب، فإن معظم التقديرات التي أجرتها جهات مستقلة تراوحت ما بين 100 إلى 200 مليار دولار أميركي· وقد استشهد (ويليام نوردهاوس) الأستاذ في جامعة (يال) بدراسة تتنبأ بوصول التكاليف المباشرة إلى ما بين 150 إلى 740 مليار دولار على مدى 10 سنوات· لكن حجم ما التزمت إدارة (بوش) بإنفاقه حتى الآن قد تجاوز 160 مليار دولار في أول عامين فقط·
لا أعني أن التنبؤات لم تكن مسموعة في داخل الإدارة الأميركية، بل إن صدى بعضها قد تردد في مشروع وزارة الخارجية المعني بعراق ما بعد الحرب· لكن هناك مجموعة صغيرة من المسؤولين المدنيين في البنتاغون احتكرت التحكم بعملية الاحتلال واختارت تجاهل آراء الخبراء، لا بل إن هؤلاء المدنيين قد تأثروا كثيراً بالمنفيين العراقيين الذين أصرّوا على أن هناك إمكانية لتحويل وتغيير العراق بسرعة إذا تم فقط حل المؤسسات العراقية الموجودة وتفكيكها تماماً، ومنها مثلاً الجيش العراقي· وقد اعترف (بول بريمر) بأنه بقي،حتى وقت تعيينه رئيساً لسلطة الائتلاف المؤقتة، مستغرقاً في حياته المهنية في القطاع الخاص، كما اعترف بأنه لم يقرأ معظم الدراسات حول العراق·
لم يسبق السيف العذل ولم يمض بعد أوان الاصغاء إلى النصائح، إذ لم تتجسد حتى الآن أخطر المشكلات التي تنبأ بها الخبراء والتي من الجائز أن تقع في هذه السّنة، ومنها الدافع الذي جعل الزعامة الكردية تسير نحو الحصول على ق