(المستهلكون المتعطشون يعودون طلباً للمزيد)· هكذا قالت الصحف في تقاريرها التي وردت في معرض التعليق على نوبة النهم وجنون الإسراف في الشراء التي اجتاحت مراكز التسوق في الولايات المتحدة مع دخولنا في العام الجديد· فبعد شراء الهدايا الوفيرة في الأيام التي تسبق الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، يحين موعد عودة الأميركيين إلى الإنفاق مرة أخرى، بفعل الإغراء الذي تمارسه الإعلانات المعروفة المتوقعة عن الأسعار المحطمة والعروض الخاصة·
فليكن ذلك، ولِم لا؟! فالاقتصاد الأميركي آخذ في الانتعاش، ومؤشرات أسواق الأسهم في تصاعد في كل أنحاء العالم، والتجّار والمتعاملون والمصرفيون يتلقون من جديد علاوات كبيرة لقاء أسلوبهم في نشر أموال الآخرين واستخدامها·
ولِمَ لا وشركات بطاقات الاعتماد تقدم لكم قطعة بلاستيكية جديدة كل أسبوع· فكلوا واشربوا وامرحوا! وهيا تدافعوا بالمرافق وتزاحموا بكل ما أوتيتم من قوة· أجل، في موسم الشراء هذا، هناك بشر لقوا حتفهم سحقاً ودهساً بسبب تدافع الناس في غمرة الفورة المسعورة أثناء دخول المتسوقين عبر أبواب المتاجر!
وما كان إلاّ لمتذمر نكد متشائم وكئيب المزاج على شاكلتي أن يلفت الانتباه في هذا الوقت إلى وثيقة نشرتها منظمة الصحة العالمية قبل أسبوع واحد بالضبط من عيد الميلاد· والوثيقة المذكورة تضم (التقرير السنوي الخاص بالصحة العالمية) الذي وضعته هذه المنظمة الدولية المهمة، وفيه رسالة موجهة إلينا جميعاً نحن البشر· غير أن ما قالته الرسالة تعرّض بطبيعة الحال للطمس والتعتيم في وسائل الإعلام المهووسة بأفلام الخيال والوهم ومرض جنون البقر والمشاجرات ما بين المتنافسين في الحزب الديمقراطي الأميركي على الترشح للانتخابات الرئاسية· ولذلك لم يأخذ التقرير قدراً كبيراً من الاهتمام إلاّ في بضعة مصادر إخبارية احترمت نفسها، مثل وكالة (رويترز) للأنباء و(كريستيان ساينس مونيتور)·
أما الرسالة التي تجعل الخوف يسري في العروق فتقول إن الحياة تسوء سنة بعد سنة بالنسبة لأفقر الفقراء في العالم· ومن الحقائق المعروفة أن مستويات متوسط العمر المتوقع قد ارتفعت على نحو مطّرد بين أولئك الذين ولدتهم أمهاتهم محظوظين في المجتمعات الأغنى-متوسط العمر المتوقع للنساء الفرنسيات يبلغ 83.5عاماً، وللرجال الأستراليين 77.9 عاماً· لكن من الحقائق أيضاً أن متوسط العمر المتوقع قد ارتفع أيضاً في بعض البلدان التي تضم أعداداً كبيرة من السكان، مثل الصين والبرازيل ومصر· ويعني ذلك أن الأنباء ليست كلها سيئة تعكّر صفو الخاطر، حتى وإن كانت المجتمعات التي يتقدم بها العمر تخلق مشكلاتها بيدها· وعلى رغم ذلك، فإن من المستحسن والأفضل إلى حد بعيد أن يكون الشعب شعباً عجوزاً وغنياً بدلاً من أن يكون شاباً فتياً ضربته الأمراض·
وما عليكم إلاّ التفكير في الإحصائيات التي يقدمها التقرير السنوي المذكور· (ولِمَ لا يعلّقها كلّ منّا على باب ثلاجته بعد قراءتها؟!) تقول الإحصائيات إن هناك 14 بلداً أفريقياً ارتفعت فيها نسبة وفيات الأطفال اليوم عما كانت عليه في عام 1990· أما السبب فهو إصابة هذه الشعوب بالمزيد والمزيد من الأمراض· لماذا؟ لأنها صارت أشد فقراً مما كانت منذ 30 عاماً· وفي سيراليون التي يركبها الفقر، يموت 300 طفل من كل ألف قبل بلوغهم عامهم الخامس من العمر·
وفي الخلاصة التي عرضت بها وكالة (رويترز) التقرير المذكور، وردت هذه الجملة المقتضبة: (من الممكن للطفلة المولودة في اليابان أن تتوقع لنفسها أن تعيش 85 سنة، في حين أن الطفلة المولودة في سيراليون لن تعيش على الأرجح أكثر من 36 سنة)· وإذا لم تعلق هذه الحقيقة المخيفة في حلوقنا ولم نهضمها جيداً ، فإن ذلك يعني أننا قد فقدنا تماماً معنى الإنسانية المشتركة والحس الإنساني، كما يعني أن كل الاحترام قد طار من النافذة وهرب! فماذا ينبغي علينا أن نفعل حيال هذا الفحش وهذه القذارة؟
لقد دأبت على التفكير جاهداً محتاراً في مسألة الإفقار العالمي (وليس الفقر) ليس فقط في غمرة نوبة الإفراط والإسراف التي شهدها عيد الميلاد، بل في أثناء عقود من الإطلاع والقراءة حول موضوع الطريقة التي تطلب منا الأديان والأعمال والمؤلفات الموازية في المعتقدات والموروثات والتقاليد الإنسانية الأخرى- أن نتبعها لكي نرد على المشكلة·
وفيها الأمر بتقديم العون إلى الأرامل واليتامى (وهناك عشرات الملايين من الأرامل واليتامى المصابين بمرض الإيدز في أفريقيا التي دمرها الفقر) كما توصينا بإطلاق سراح المسجونين ظلماً وتوصينا كذلك بتقديم المساعدة إلى أولئك الغارقين في لجّة الفقر· وقد يعني ذلك في نظر البعض منا تصرفات شخصية وأعمالاً تطوعية فردية· لكن معظمنا يرى أن هذه الوصايا تطلب منا أن نطلق أيدينا إلى مكان أعمق في جيوبنا· فالتحويلات المالية وحدها لن تحل كوارث سوء الحكم والسياسة ولا انتهاكات حقوق الإنسان التي ابتليت بها بلدان مثل سيراليون· لكن الله يعلم أن عدم تقديم المساعدة المادية يعني عدم قدرة البلدان التي