الآن وبعد أن هدأ قليلا ذلك الصخب والضجيج، الذي صاحب ما عرف باتفاقية جنيف وامتد إلى معظم أنحاء العالم، فإنني أرى أن الوقت قد حان، للنظر في المسألة، وتقصى الأسباب التي جعلت معظم الإسرائيليين لا يقفون وراء تلك المبادرة غير الرسمية، المتعلقة بتحقيق السلام مع الفلسطينيين. والمشكلة الكبرى أمام الإسرائيليين، هي أن ما يدعيه معدو تلك الوثيقة شيء، وما تقوله الوثيقة ذاتها شيء مختلف تماما. بالإضافة لذلك هناك هموم جدية فيما يتعلق بمصداقية الطريقة التي تم بها تقديم تلك المبادرة. لننظر أولا إلى هويات واضعي تلك المبادرة. إن معدي المبادرة يقدمون أنفسهم على أنهم شخصيات عامة إسرائيلية وفلسطينية، أو مثقفون أو كتاب. الأمر ليس كذلك في الحقيقة. على الجانب الإسرائيلي يمكن القول إن ذلك كان حقيقيا، لأن المجموعة التي استهلت العمل من أجل التوصل لتلك المبادرة، ضمت سياسيين بارزين من صفوف المعارضة كما ضمت مثقفين وكتابا. أما على الجانب الفلسطيني، فإن الصورة كانت مختلفة تمام الاختلاف . فالمفاوض الفلسطيني الرئيسي في هذه المبادرة وهو السيد ياسر عبد ربه، كان يشغل من قبل منصب وزير الإعلام والثقافة في السلطة الفلسطينية. علاوة على ذلك فإنه في احتفال إعلان المبادرة الذي أقيم في جنيف الشهر الماضي، تمت قراءة رسالة من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يؤيد فيها المبادرة بشكل عام، كما قام عدد من الوزراء الفلسطينيين الرسميين بحضور الاحتفال. يمكن القول إن اتفاقية جنيف، عبارة عن وثيقة يتبناها قسم من المعارضة الإسرائيلية، ومعظم أقسام المؤسسة الفلسطينية الحاكمة، وأنها ليست وثيقة نابعة من (المجتمع المدني) الإسرائيلي أو الفلسطيني.
وقد قام من أعدوا الوثيقة، بتقديمها على أنها تمثل إشارة إلى القبول الفلسطيني بالدولة اليهودية، في حين أنه لا يوجد شيء من هذا في الوثيقة، وإنما هناك فقط إشارة مبهمة إلى حق اليهود في دولة، دون أن تشتمل الوثيقة في أي جزء منها على أي شيء يفيد أن تلك الدولة في أرض إسرائيل الحالية. على هذا فإن مثل تلك الدولة يمكن أن تقوم في مكان آخر كأوغندا مثلا. ونظرا لأن السبب الجذري للصراع يتمثل في عدم رغبة العرب بقبول إسرائيل كدولة يهودية ، فإن الكثيرين من الإسرائيليين قد شعروا أن من قاموا بإعداد الوثيقة لم يكونوا صادقين معهم.
ينطبق هذا أيضا على موضوع حق العودة للاجئين الفلسطينيين عام 1948 ولأحفادهم، وهو الحق الذي يشكل حجر زاوية في العقيدة الفلسطينية الوطنية الثابتة. علاوة على ذلك، يدعي معدو الوثيقة أن الفلسطينيين قد تخلوا صراحة في الوثيقة عن حقهم في العودة إلى ديارهم التي فروا منها، أو التي طردوا منها خلال حرب عام 1948· ولكن الحقيقة أن الأمر ليس كذلك. فعلى رغم أن عبارة حق العودة لا تظهر في الوثيقة بشكل واضح وصريح، إلا أننا يجب ألا ننسى أن الوثيقة تنص على أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين سوف تتم معالجتها وفقا لقرار الأمم المتحدة رقم 194· إن ذكر هذا القرار الصادر عام 1948، مع عدم ذكر حق العودة تحديدا، يعني ببساطة أن اللاجئين (سوف يعودون)، خصوصا إذا ما عرفنا أن كل طفل فلسطيني يتم تعليمه أن القرار 194 هو بمثابة ضمانة شرعية من المجتمع الدولي لحق الفلسطينيين في العودة. وفي هذه النقطة أيضا، شعر الإسرائيليون أن معدي الوثيقة كانوا أبعد ما يكونون عن الصراحة.
أما فيما يتعلق بموضوع المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، فقد قدم معدو الوثيقة وثيقتهم على أنها (تضمن) بقاء المستوطنين في الأماكن التي كانوا فيها. ومرة أخرى أقول إن الأمر ليس كذلك. فتفحص الخرائط الملحقة بالوثائق الفرعية يبين لنا أنه من بين المئتين وعشرين ألف مستوطن المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، هناك مئة وأربعون ألف مستوطن سوف يتم نقلهم إلى أماكن أخرى. وهذا بالطبع رقم كبير ، يتطلب قرارات سياسية واقتصادية وبشرية صعبة. وحتى هؤلاء الذين يؤيدون استئصال العديد من المستوطنين من أماكنهم الحالية، لم يحبوا الطريقة التي اختار بها معدو الوثيقة عدم التعامل معهم بصراحة بصدد هذه النقطة. هناك موضوع آخر يبرز أمامنا حينما نقوم بالاطلاع على تلك الوثيقة.. هو أن تلك الوثيقة تنص على إنشاء مجموعة تنفيذ وتحقق دولية، تكون مسؤولة عن إعادة تسكين اللاجئين ، وعن المسائل الحدودية وعن الهيكلية المعقدة التي ستقوم بالإشراف على القدس المقسمة. وهذه المجموعة الدولية لن تضم فقط ممثلين عن الأمم المتحدة، و الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي.. ولكنها ستضم أيضا ممثلين عن الجامعة العربية. وإذا ما أخذنا السلطة الواسعة التي سيتم وضعها في أيدي تلك المجموعة في الحسبان، فإننا سنجد أن تلك السلطة تحديدا ستكون سببا يدفع الكثيرين من الإسرائيليين للشعور بأن استقلال دولتهم وسيادتها سوف يتم تقليصهما إلى حد خطير، إن لم يتم إلغاؤهما تماما، وهو ما يهدد بتحويل دولتهم إلى شبه محمية.
ويمكن أن نضيف إلى دواعي الضيق والقلق هذه، حقيقة أن وثيقة جنيف تنص ليس فقط على حق ف