شكل عام 2003 عاما استثنائيا لاقتصاديات البلدان المنتجة للنفط، بما في ذلك الاقتصاديات الخليجية، حيث انتعشت الأوضاع الاقتصادية بصورة ملحوظة وحققت الموازنات السنوية في دول مجلس التعاون الخليجي فائضا كبيرا نسبيا.
تأتي هذه التطورات في ظل التحسن الكبير الذي طرأ على أسعار النفط في العام الماضي والتي ارتفعت بنسبة تصل إلى 17%، كما أدت التطورات السياسية والأمنية إلى زيادة انتاج النفط في دول المجلس لتلبية الطلب المتنامي في الأسواق العالمية.
لقد سعت دول المجلس خلال السنوات العشر الماضية إلى تحقيق التوازن في موازناتها السنوية من خلال مساواة الايرادات بالانفاق، واتخذت في سبيل ذلك العديد من الاجراءات لزيادة الايرادات غير النفطية، إلا أن ارتفاع الانفاق في الوقت نفسه لم يؤد إلى الوصول إلى تحقيق التوازن المنشود، فالعائدات النفطية لا زالت تلعب دورا حاسما في تمويل بنود الموازنات السنوية، إذ لا توجد حتى الآن مصادر بديلة للدخل يمكن أن تعوض فترات التراجع في العائدات النفطية بين فترة وأخرى.
وتبدو الأوضاع الاقتصادية في دول المجلس في أحسن حالاتها، فبالاضافة إلى الارتفاع الكبير في العائدات النفطية، فقد أدى التطبيق العملي للتعرفة الجمركية الموحدة بين دول المجلس اعتبارا من شهر يناير من العام الماضي إلى زيادة كبيرة في التجارة الخليجية البينية وهو ما أشرنا إلى إمكانية حدوثه في العديد من المناسبات على مدى الاعوام الماضية.
لقد غدت الاسواق الخليجية بفضل هذا الانجاز سوقا واحدة كبيرة تتوفر من خلالها امكانيات حقيقية لتنمية العديد من القطاعات الاقتصادية غير النفطية، مما سيشكل أحد أهم المخارج التي يمكن أن تساهم -إلى جانب عوامل أخرى- في تنويع مصادر الدخل القومي وبالتالي التقليل من الانعكاسات التي تتركها التطورات غير المواتية في أسواق النفط العالمية.
وفي الوقت نفسه، فقد أصبح من الضرورة بمكان وضع بعض المعايير والضوابط التي تتيح التقليل قدر الامكان من انعكاسات هذه التطورات، حيث يمكن إقامة (صندوق الاحتياط النفطي ) في كل دوله، بحيث تستثمر فيه فوائض العائدات النفطية في فترات ازدهار أسعار النفط، على أن يؤدي هذا الصندوق غرضين رئيسيين، يكمن الأول في مواجهة التقلبات في أسعار وعوائد النفط، في حين يكمن الغرض الثاني في مواجهة أية عجوزات قد تتعرض لها الإيرادات العامة في دول المجلس.
لقد وفرت مثل هذه الصناديق مرونة اقتصادية ومالية كبيرة لبعض البلدان، كالنرويج على سبيل المثال، وبالأخص في فترات تراجع عائدات النفط، مما أدى إلى المحافظة على استمرار النمو الاقتصادي واستقراره بغض النظر عن تقلبات أسعار النفط، باعتبار النرويج من البلدان النفطية القليلة في أوروبا.
في غضون العقدين الماضيين حققت دول المجلس بعض التقدم، فيما يتعلق بتنويع مصادر الدخل القومي وتم تنمية العديد من القطاعات الاقتصادية المهمة، كالصناعات البتروكيماوية والألمنيوم ومنتجات النفط، حيث تستحوذ منتجات هذه الصناعات في الوقت الحاضر على 70% تقريبا من اجمالي قيمة الصادرات غير التفطية، كما أنها تتمتع بافضليات تنافسية في الأسواق العالمية.
ومع ذلك، فإن العائدات النفطية لا زالت الممول الرئيسي للموازنة السنوية وللانفاق العام، مما يعرض الاوضاع الاقتصادية للتقلبات الناجمة عن تطورات أسواق النفط والتي يصعب التحكم فيها، وذلك رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها منظمة الاوبك، وعلى رأسها دول المجلس في هذا الصدد.
في اجتماعات الدوليين التي عقدت بدبي في نهاية العام الماضي قدمت العديد من أوراق العمل ذات الطابع العالمي والخاصة بالادارة المالية للعائدات النفطية وتم التطرق إلى تجارب العديد من دول العالم المتطورة والنامية على حد سواء، وتمت الاشادة بالتقدم الذي حققته دولة الامارات في أكثر من مجال.
العلاقة بين الإدارة المالية والتقدم مسألة مهمة للغاية، كما أنها تكتسب المزيد من الأهمية في ظل العولمة والمنافسة الشديدة، مما يتطلب الاستفادة من مختلف التجارب لتقوية القدرات التنافسية للاقتصاديات الخليجية، وبالأخص النظر في إمكانية اقامة صناديق الاحتياط النفطي، باعتبارها (وعاء) ادخاريا مهما للبلدان المنتجة للنفط، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي.