كلما تأزم الموقف من حول الشعوب العربية، لجأ المثقفون العرب إلى ترسانة من التحليلات والتوقعات، وكأنهم يواجون (الأزمة) للمرة الأولى، فها هو الموقف الآن في درجة قصوى من التأزم حول رقاب العرب، في العراق وفلسطين، ومناطق أخرى طرفية أو جانبية· لكن ها نحن أيضاً أمام افتراضات كأننا نواجه الاحتلال الأجنبي لأول مرة أو نكتشف الولايات المتحدة الأميركية ومبادراتها، أو نعاني توسعية إسرائيلية طارئة· أما عن (النظام العربي) و(النظم العربية) فحدث ولا حرج عن أزمتها الداخلية، أو متطلبات العدل والديمقراطية التي نكتشف أن الموقف يتطلبها من أجل صلابة أفضل، أو أن علينا أن نتأمل مقترحات أميركية أو أوروبية جديدة حول الإصلاح السياسي والاجتماعي، وتقوم النصوص الإعلامية للأسف بدور (النص الثقافي) الأساسي، مع أننا عشنا يوماً كان طه حسين والعقاد والكواكبي ومحمد عبده يكتبون النص فيتصدر تلقائياً أداة الإعلام السائدة التي تطرحه بكل تقدير، وليبقى عدة عقود هو الفاعل فيما نسميه بـ(العقل العربي)، حدث ذلك منذ كان (المقطم) و(العروة الوثقى) و(الهلال) ومنذ طرح مشروع (الجامعة الإسلامية) و(الجامعة العربية) ومستقبل الثقافة في مصر··· إلخ· كان ذلك أيضاً لكننا منذ ربع قرن تقريباً نشهد أحاديث الاستراتيجية العربية والأمن القومي العربي والمستقبليات العربية بل والبدائل العربية، إزاء كل أزمة وكل موقف حاد كبر أو صغر مع اختلاط كبير في المفاهيم يجعل حرب أكتوبر 1973 في قلب الصراع العربي-الصهيوني وسيناريوهاته على موجة (غزو) لبنان نفسها، أو احتلال العراق عندما نتناول معنى الاستعمار والاحتلال والمقاومة··· إلخ·
ويظلم المثقفون أنفسهم إذ يقتربون من هذه القضايا مجزأة استجابة للعملية الإعلامية أحياناً أو يتنازلون عن رؤاهم الأساسية والجذرية من خلال هذا العرض الجزئي أو ذاك، وأظن أن أنماط الجدل الدائر اليوم على الساحة العربية وبين نخبة من المثقفين الذين يتمتعون بقدر كبير من المكانة، تؤكد مدى الأزمة التي يعانيها أصحاب الرؤى في الأزمة! فعندما نرى المراجعات الفادحة لمعنى الاستعمار والاحتلال والمقاومة والاستشهاد والتمثيل والإقليم والوحدة·· ينتاب المرء قدر من الحسرة على ما تعانيه هذه الأمة من اضطراب الرؤى، والقيادات والنخب بما يحتاج إلى التوقف أمام سؤال بسيط: هل تغيرت عناصر مكونات الأمة إلى هذا الحد في ربع قرن؟ أم أن (النص الثقافي أو الفكري) الذي طرح منذ بداية هذه الفترة لم يعد تتوفر له أية مرجعية ؟ أم أن دور المثقفين المسؤولين لم يعد له وزنه إزاء طحنهم في عجلة (الإعلامي) و(اليومي)···؟
لقد استحضر في الفترة الأخيرة عدد من الكتب والأعمال الكبرى في الثقافة العربية الحديثة عن الاستراتيجيات العربية التي صدر ثلاثة منها أساسية في إطار الجامعة العربية بتونس طوال الثمانينيات (اجتماعية واقتصادية وثقافية) واستحضرت أعمال ندوة كبيرة عن البدائل العربية في مركز عربي معروف وفي الفترة نفسها، كما استحضرت أعمال واجتهادات عربية أخرى مما أخذ يترى بعد هذه الأعمال عن المستقبليات العربية وغيرها· ورأيت كثيراً من الأسماء تتكرر هنا وهنالك مما يعني أن عناصر النخبة الواعية معنية بتأكيد أفكارها في أكثر من موقع·
ولكنني في النهاية رأيت أحد هذه الأعمال ملخصاً للكثرة من نوعها وحول القضية المحورية في المنطقة ويؤهله حجمه وأسلوبه لأن ندعي أنه الأكثر شعبية وشيوعاً بين الجمهور الأوسع مما يعني أن قواعد هذه الأمة قد تمت إحاطتها منذ أول الثمانينيات من القرن الماضي بما يجب أن تعيه، وخاصة وقد كانت الأمة قد ألمت بالصدمتين الحديثتين وقتها، صدمة كامب ديفيد، وصدمة غزو لبنان، وخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت·
والكتاب الذي نعنيه يحمل عنوان (الأبعاد الإقليمية والدولية للقضية الفلسطينية في الوقت الراهن) وهو نتاج ندوة للجنة مناصرة الشعبين اللبناني والفلسطيني أواخر 1982 متضمناً ستة بحوث مهمة لبعض المتخصصين في هذه الأمة· أي أننا أمام عمل صدر منذ أكثر من عشرين عاماً كفيلة أن تحقق لأية أمة قدراً كافياً من الوعي وأوسع فرصة للتغييرات الاستراتيجية في عصر السرعة التقنية الفائقة وعولمة الأخبار والمعلومات، بل وتحول الأجيال··· إلخ· ولن أحاول هنا أن أقدم دراسة في الموضوعات التي تناولها كتاب هذا العمل في الندوات ذات الطابع الفكري والشعبي، ولكنني سألمس عصب ما كان يقلق هذه الأمة منذ حوالى ربع قرن وكيف حاول المثقفون المسؤولون وضع إجابة ميسرة على الفهم لأخطر القضايا، وإذ ببعضنا اليوم يطرح التساؤلات الساذجة حول الأزمة نفسها وكأن الواقع العربي قد تغير جذرياً نحو أزمة جديدة، وهذا ما يربك الواقع والمثقفين على السواء·
القراءة الممعنة في تساؤلات الأمس كفيلة أن تكشف لنا تغيراً حقيقياً لم يقع في الواقع العربي، وأن هذا هو مصدر الكارثة الحقيقي، فنحن نواجه الاستعمار والامبريالية، بعقلية التسليم نفسها، ونواجه النظم بالرجاءات نفسها، ونواجه مسؤوليتنا بالرتابة نفسها، وهذ