في مثل تلك الأيام من عام مضى كان قد بات مؤكداً أن العراق سيتعرض لعدوان أميركي بغض النظر عن أي شيء· كان الكابح الوحيد الممكن لهذا العدوان هو تعاظم قوى الضغط العالمي والعربي على الإدارة الأميركية على نحو يمس مصالحها بشكل جسيم قبل بداية الضربة الأولى بوقت كافٍ،لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وبدأ العدوان دون سند من قانون دولي أو قرار من مجلس الأمن· كان الهدف المعلن للعدوان هو إزالة أسلحة الدمار الشامل من العراق وإقامة نظام ديمقراطي فيه· وهو هدف ثبت زيف شقه الأول على نحو مطلق· فلم يظهر دليل واحد على استمرار حيازة النظام العراقي السابق لأسلحة دمار شامل بعد مرور حوالى ثلاثة أرباع السنة على بدء الاحتلال في أبريل الماضي· أما الشق الثاني من الهدف فقد تحقق نصفه السلبي وهو إزالة النظام الشمولي في العراق دون أن يتحقق نصفه الإيجابي وهو بناء ديمقراطية حقيقية هناك أو على الأقل البدء في ذلك بخطوات جادة· وتبدو (الديمقراطية الأميركية) التي تحمل رايتها الإدارة الراهنة في الولايات المتحدة في أقصى حالاتها مراوغة وهي تحاول نقل (السيادة) العراقية إلى كيانات غير منتخبة عن طريق الاقتراع العام بينما تصر القوى السياسية العراقية الفاعلة على إجراء انتخابات عامة·
أثبتت التطورات السابقة للعدوان على العراق واللاحقة عليه بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام العالمي ما زال أحادي القطبية في قيادته· إذ أن كافة الممانعات الرسمية وغير الرسمية للعدوان على العراق على رغم قلتها لم تفلح في إثناء الإدارة الأميركية عن الاستمرار في خططها إزاء العراق· صحيح أن قاعة مجلس الأمن بدت وكأنها قد شهدت انتصاراً دبلوماسياً لقوى المعارضة الدولية على الإدارة الأميركية عندما لم تتمكن هذه الإدارة الأميركية من إجبار المجلس على إصدار قرار يرخص لها بعمل عسكري ضد العراق، وصحيح كذلك أن وزير الخارجية الفرنسي قد استحوذ ببلاغته على إعجاب دوائر عديدة في أوساط الرأي العام العالمي· وحظي نظيره الألماني بالشيء نفسه بخطابه الصارم· وأحدث نظيرهما السوري أثراً مماثلاً لدى الرأي العام العربي على الأقل بموقفه القوي· وصحيح أيضاً أن مظاهرات مليونية ونصف مليونية قد اجتاحت عدداً من مدن العالم معلنة موقفاً شديد الرفض للعدوان ناهيك عن غيرها من المظاهرات التي بدا وكأنها قد استشرت في النظام العالمي برمته، لكن هذا كله لم يتمكن من إيقاف القطار الأميركي المندفع إلى العراق· كانت المصالح شديدة الوضوح أمام أعين رجال الإدارة الأميركية بغض النظر عن رشادة حساباتهم· وكان ميزان القوى العالمي والإقليمي يسمح لهم بأن يتحركوا لإتمام ما خططوا له طويلاً وقد كان·
وعندما سقطت بغداد في السابع من أبريل 2003 بدت الواقعة مصدراً لانكسار عربي شديد على رغم أن غالبية النظم العربية كانت تتمنى بالتأكيد زوال نظام صدام حسين· لكن بغداد مع ذلك تبقى بغداد بكل مكانتها في التاريخ العربي الإسلامي· وبدا أن قلة فقط هي التي تهلل لسقوط بغداد، وتبشر بأن هذا السقوط بداية لنهوض جديد لم يكن ممكناً دون احتلال أجنبي غافلة أو متغافلة عن أن الاحتلال كذلك يبقى احتلالاً له مشروعه الخاص الذي يمتلك أولوية واضحة على ما عداه· فلم ترسل الإدارة الأميركية قواتها إلى العراق· وتتحمل ما تحملته من تكلفة هائلة من أجل أن تقيم فيه ديمقراطية وتعيد إعماره· ولكن ثمة مصالح محددة ينبغي أن تضمن أولاً وبعد ذلك تبحث لها عن إطار سياسي ملائم يمكن وصفه لاحقاً بالديمقراطية وتدعيمه بقدر من الإنجاز الاقتصادي·
الملفت للنظر بعد ذلك أن النظامين العالمي والعربي قد كيّفا نفسيهما مع واقعة الاحتلال، فقنن مجلس الأمن هذه الواقعة في قراره الشهير برقم 1483 على رغم أن الاحتلال قد تم على رغم منه، بل ووضع صيغة قانونية لـ(نهب) الثروة العراقية النفطية لم تتحقق ضمانات الرقابة عليها المتضمنة في ذلك القرار حتى الآن· أما النظام العربي فغض النظر عن قراراته سواء تلك التي كانت قمة شرم الشيخ في مارس 2003 قد أصدرتها قبيل العدوان أو تلك التي أصدرها مجلس وزراء الخارجية العرب إبان العدوان· وبدلاً من أن تنعقد قمة عربية طارئة للنظر في واقعة بخطورة احتلال العراق عقدت قمة عربية-أميركية في شرم الشيخ في شهر يونيو بارك الجانب العربي فيها القرار 1483 على نحو غير مباشر· فقد أكد القادة العرب المشاركون في القمة الالتزام باستقلال العراق ووحدة أراضيه في ظل حكومة تمثل الشعب العراقي ونابعة من إرادته الحرة· ولكنهم اعتبروا أن القرار 1483 (وسيلة مفيدة) لتحقيق هذه الأهداف، وفيما بعد حسمت جامعة الدول العربية في واقعة غير مسبوقة في تاريخها قضية تمثيل العراق بإعطاء مقعده (بشكل مؤقت) لمجلس الحكم الانتقالي الذي شكلته سلطة الاحتلال بعد أن كانت في خبراتها السابقة تعطي مقاعدها بصفة مراقبة لحركات التحرر الوطني· صحيح أنه كان من المستحيل أن يتفق على الجبهة التي تمثل الإرداة العراقية المناهضة للاحتلال ناهيك عن أن تكون هذه الجبهة ذات علاقة بنظامه ال