درج شطرٌ متنامٍ من الكتاب والباحثين العرب منذ عقدين من الزمن على الكتابة في ضرورة مراجعة نقدية للفكر العربي، خصوصاً في تجلّيه المعاصر· ولعل هذه الرغبة أن تكون قد تعاظمت منذ سقوط بغداد وتصاعد الأسئلة القديمة الجديدة· وبرز في سياق ذلك بل ربما في مقدمته سؤال يتجه مباشرة نحو ما يعتبره البعض (مَربِضَ) الفكر العربي وهو (العقل) العربي، تحديداً· وقد تابع هذه الموجة كتاب آخرون من خارج الحقل العربي، خصوصاً مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر· وفي المحصلة بدا الأمر وكأن قاسماً مشتركاً يجمع بين هؤلاء وأولئك ويتمثل في توجيه (الاتهام) إلى ( العقل) العربي بمثابته عقلاً أخفق تاريخياً· أما كيف، فيتضح بكونه دلّل على عجزه على الانفتاح على التاريخ، بحيث ظهر -وفق وجهة النظر المعنية هنا- أنه مغلق أو أنه أغلق بعد أن شُحن في عصر التدوين العربي (وهو يُنظر إليه على أنه القرن الهجري الثالث)·
وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن يعاد فتح ذلك (العقل) بـ(عملية جراحية) يشترك فيها خبراء من خارج الحقل العربي، أي من قِبل من يمتلك (عقلاً مفتوحاً) قادراً على المساعدة في ضبط ما يعتبر استحقاقات فكرية عربية· وبتعبير آخر، يحتاج (العقل) العربي نمطاً من (العقلانية الديمقراطية الغربية)، كي يدخل التاريخ العربي والعالمي من جديد· أما إذا دار الحديث على نمط آخر من (العقل)، من مثل (العقل الإسلامي)، فالأمر يأخذ مساراً آخر، وإن ظل يشترك مع المسار الأول من الناحية المنهجية·
إن إيضاح ذلك يقوم على أن (العقل) الإسلامي أصبح مترهلاً عاجزاً عن مواكبة العصر، ومن ثم، فإن (إصلاحه) لا يتم إلا بالعودة إلى الأصل عودة سلفية، أي وفق الشعار الأصولي المحدد: الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف! ومن شأن هذا أن يعني دعوة لإقالة الإنسان وتفكيره العقلي· أما وجه المشاركة في الموقفين فيقوم على أن كليهما يرفض النظر إلى العقلين، العربي والإسلامي) على أنهما داخل التاريخ والعصر، وعلى أنهما يستمدان مرجعيتهما من الغرب (في الحالة الأولى)، وفي القرن السابع (في الحالة الثانية)·
هكذا، يتضح الموقف في سياق طرح السؤال المركّب التالي من قبل مجموعات جديدة متعاظمة من المثقفين والسياسيين: لماذا يخيم على العالمين العربي والإسلامي هذا الترهل الهائل في مرحلة يمكن أن تستفز -في حقل جيوسياسي وقومي آخر- شعباً بأكمله؟ هل الأمر يجد الإجابة في النظم السياسية والثقافية المهيمنة فيهما، خصوصاً في التركيب الاستبدادي لها؟ وإذا أقصينا الفرضية العرقية المفتضحة والقائلة إن الأمر يكمن في (العرق العربي والإسلامي)، فكيف يتعين علينا أن نأخذه (أي الأمر)؟
ها هنا، تبرز ملاحظتان اثنتان يمكن أن تُفصحا عن بعض الإجابة على ذلك السؤال المركب· أما أولاهما فتقوم على أن العرب -مثلهم في ذلك مثل غيرهم من الشعوب- خضعوا منذ التدفق الاستعماري ثم الامبريالي ثم (الآن) العولمي لحروب إبادة واستيطان، بحيث لم يتمكنوا من متابعة تجربتهم أو تجاربهم النهضوية الحديثة منذ أواخر القرن الثامن عشر· بيد أن الملاحظة الثانية تتمّم سابقتها بالقول إن ذلك التدفق ما كان له أن يفعل ما فعله إلا ضمن بنية داخلية عربية وإسلامية في أوائل فتوّتها، ثم في حالة اختراقها ومحاولات تفكيكها· وفي هذا وذاك، كانت بداية تكوّن نظم استبدادية في العالمين العربي والإسلامي قد أخذت طريقها·
وجدير بالاهتمام أنه في سياق تكوّن تلك النظم الاستبدادية، ظهرت أفكار تتحدث عن (المستبد العادل والعاقل)؛ مما هيأ لنشأة التفكير في وجود (عقل عربي وإسلامي) له وجوده الثابت، الذي على الجميع أن يقروا به، ومن ثم بوجود ضرورة تنصيب مثل هذا (العقل) رئيساً وحاكماً على (الرعية)· أما ما أتى بعدئذ فقد تبلور في الكشف عن أن الحديث عن (عقل عربي وإسلامي) إن هو إلا خطاب يكرّس الاستبداد (المتجذّر) في شخصية العربي والمسلم· أما البديل عن هذا المصطلح فهو (الفكر العربي والإسلامي)، أي الفكر المتكون والمتغير تغيّر الشرط التاريخي· وهذا، بدوره، يؤسس لفكرة أن التاريخ هو سيد الأحكام، وليس مصطلحاً يعتبر ثابتاً قطعياً يعيش فوق التاريخ·