كان يوم القبض على صدام حسين في حفرة ضيقة بتكريت سقوطاً ثانياً لنظامه الذي تهاوى قبله بثمانية أشهر، بل إن تمثاله، كما علق البعض ساخراً، قاوم أكثر منه·· في ساحة الفردوس ببغداد!
ستدخل عبارة حاكم بغداد الأميركي (بريمر) عندما أعلن اعتقال الرئيس المخلوع التاريخ· فمن كان يصدق أن ينتهي عهد القائد- الضرورة، بعد كل تلك الأمجاد والبطولات، والخطب والأغاني، بل وتلك الأشرطة الملتهبة على الفضائيات العربية، يدعو فيها شباب العراق وشرفاء الأمة إلى الدفاع عن المقدسات، والاستشهاد في سبيل الوطن، أن يستسلم بكل ذل وخنوع خارجاً من جحر حقير، متعثراً أثناء خروجه بالمسدسات والرشاشات التي لم يطلق منها رصاصة واحدة على عدوه أو على نفسه، فيصبح (الشهيد-الضرورة) كما عاش القائد-الضرورة!
الكثيرون فرحوا لسقوط هذا الوحش الشرس في الأسر، وآخرون بكوا ألماً على حال العالم العربي إذ يحكمه أمثال هؤلاء الطغاة لعشرات السنين، متسربلين بثياب الأبطال، ومتشحين بوشاح المجد والبطولة والعروبة والفداء، لينفضح أمرهم ويُعرف معدنهم في ساعة النهاية·
ولكن هذه الفرحة، وربما الألم كذلك، كانا يقلان كلما اتجه المرء غربي العراق باتجاه بقية بلدان العالم العربي· فقد أعرب فلسطينيون، كما نقلت وكالة (رويترز)، عن دهشتهم الشديدة إثر إعلان القوات الأميركية عن اعتقال الرئيس العراقي المخلوع، (فيما دعوا العراقيين إلى استمرار (المقاومة))·
وفي الأردن تمالك المحامون أنفسهم وتطوعوا للدفاع عنه، لا عن أرامل وأيتام العراق وضحايا نظام صدام، فيما اعتبرته أحزاب الأردن القائد الشرعي الوحيد للعراق·
وفي الإعلام المرئي والصحافة العربية، تبارى (المثقفون) العرب والأكاديميون وخبراء (المراكز الاستراتيجية) لتعرية السياسة الأميركية والمخططات الإسرائيلية القادمة، بعد أن انتهى عهد صدام، الذي (على رغم كل جرائمه وحماقاته)، وعلى رغم كل ما فعله بشعب العراق وجيرانه، كان (شوكة في حلق أعداء الأمة)، و(رقماً مهماً) في التوازن الاستراتيجي ضد إسرائيل··
(شوف) بؤس العرب الاستراتيجي!
حتى الممثل المسرحي السينمائي المعروف (محمد صبحي) رمى بسهمه في المضمار مهاجماً الكويت ودول الخليج ومدافعاً عن الرئيس المقبوض عليه في غار تكريت بقوله لمجلة (الأهرام العربي): (إن صدام حسين من أشرف الحكام العرب، وأشرف من هؤلاء الذين أعطوا الأميركيين الفرصة لكي يضعوا أقدامهم على أراضينا التي جاؤوا للاستيلاء عليها)·
تمنيت لو أن هؤلاء الكتاب والساسة والإعلاميين انتهزوا الفرصة للتعمق في دلالات الحدث ومدلول استسلام قائدهم المناضل الأسطوري بهذا الشكل الذليل· تمنيت لو صارحوا القارئ والمشاهد ببؤس أحوالنا وتعاسة أوضاعنا ومسؤوليتنا السياسية والحضارية عما حل بنا على امتداد ثلاثين أو خمسين عاماً، بدلاً من كيل الشتائم للغرب والأميركان، والدخول في سوق المزايدات القومية والدينية· تمنيت لو أنهم قالوا مثلاً: نحن لا نستطيع أن نغير السياسات الأميركية والمخططات الغربية، ولكننا نستطيع أن نغير أحوالنا وسياساتنا واقتصادنا وتعليمنا وفكرنا·· وإعلامنا!!
هذا (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، لم نسمع منه إلا القليل بعد هزيمة 1967، وأقل القليل بعد كارثة 11 سبتمبر 2001 التي عصفت بمصالح العرب والمسلمين في كل مكان، فلماذا نتوقع من المثقفين والإعلاميين العرب اليوم، وقد تم اصطياد (جيفارا الرافدين) أو (جياب تكريت) أن يكونوا أكثر تأثراً بالمأساة؟
مثقفو العالم العربي وكتابه وساسته، دشنوا خطاً جديداً في الدفاع عن مثالياتهم ومطالبهم الخيالية، إزاء (الديمقراطية التي سيفرضها عليهم الغرب والأميركان)· فهذه الديمقراطية مزيفة، آتية إلينا بالإكراه، غير مراعية لخصائصنا القومية وقيمنا الدينية، ودون إعداد سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي كاف! يا سلام! أين كنا إذاً يا سادة يا كرام، على امتداد نصف قرن، عندما كانت الدنيا كلها تتحول وتتبدل، ونحن ملتفون حول الزعامات القومية والقيادات التاريخية والتجارب النابعة من خصائص الأمة·· حتى نالت منا كل هذه الصفعات؟
ومن قال إن العالم الخارجي سيتحمل إلى الأبد جهلنا ودلالنا السياسي، ويسعى في أن يوفر لنا بدلة مفصلة (نِت) لخصائصنا في عشرين دولة، وأن يصبر على تجاربنا ومغامرات قياداتنا القومية والدينية؟
بل من قال إن العالم الخارجي الأميركي الغربي، عندما يتدخل بهذه القوة، ينبغي أن يكون أكثر فهماً لنا من أنفسنا؟ وأحرص على مصالحنا وأكثر رعاية لخصائصنا، ما دمنا بهذه الدرجة من الاستسلام لمصيرنا واللامبالاة عبر السنين؟
من كان صدام حسين؟ وكيف أدار شؤون جمهورية الخوف وأدار كذلك على امتداد سنوات طويلة رؤوس العرب؟ ماذا فعل بالشعب العراقي ومؤسساته ومثقفيه ورجاله ونسائه؟ لماذا صعد؟ لماذا سقط؟ ثمة اليوم أطنان من الوثائق في العراق وخارجه تكفي مؤونة للباحث لسنين طويلة قادمة·
عندما تم اصطياد القائد المخلوع كإنسان الكهوف في ذلك الغار المصطنع، تحدث الكثيرون عن جبن القائد، وصعقوا لرؤي