يرى الأميركيون الذين سئموا من الحديث عن (سياسات الهوية) في الوطن، أنهم يتعاملون مع برميل بارود من الانقسامات العرقية في العراق، في حين أنهم أقل أمم العالم استعدادا للتعامل مع هذا النوع من الانقسامات، التي تهدد المجتمع العراقي اليوم. فبسبب إيمانهم بما يعرف بـ(البوتقة)، وبسبب التجربة الأميركية الناجحة نسبيا في الاستيعاب، فإن الأميركيين غير قادرين تماما على فهم ما تعنيه كلمة (عرقية) خصوصا في الخارج.
لقد كانت غفلة الأميركيين عن حقائق الأوضاع الطائفية في العراق ظاهرة منذ اليوم الأول، وذلك عندما قاموا بتعيين البعثيين -وهم من السنة في غالبيتهم- في المناصب الكبرى والمناصب القيادية للشرطة، الأمر الذي أثار غضب الشيعة والأكراد وغيرهم، واضطر مسؤولي التحالف فيما بعد إلى إلغاء تلك التعيينات.
إن سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع الواقع الطائفي في العراق، كانت هي ألا يكون لها سياسة. نعم لا سياسة، وإنما هناك فقط هدف أساسي لإدارة بوش، يتمثل في نقل السلطة إلى العراقيين في موعد غايته نهاية يونيو القادم، وذلك من خلال عملية ديمقراطية، معتقدة أن انقسامات العراق الطائفية والعرقية والعشائرية ،سوف تذوب جراء عملية الدمقرطة السريعة ، والثروات التي ستتدفق من الأسواق.
لسوء الحظ، فإن وقائع التاريخ القريب، قد أثبتت أن العكس هو الصحيح. فعملية الدمقرطة السريعة، تمت تجربتها في الكثير من البلاد الفقيرة الممزقة عرقيا خلال العقدين الأخيرين، وكانت النتيجة في كل حالة صادمة للوعي. نذكر على سبيل المثال لا الحصر هنا الحالة اليوغسلافية، التي كانت عملية الدمقرطة السريعة فيها سببا أدى إلى تحقيق نصر ساحق في الانتخابات لداعية الكراهية (فانجو تدجمان) في كرواتيا، وللسفاح (سلوبودان ميلوسوفيتش) في صربيا. وفي العراق يستحيل علينا أن نتنبأ من الذي سيفوز، إذا ما أجريت انتخابات حرة هناك. وإذا ما أخذنا التكوين الديمغرافي للسكان، والحالة الاقتصادية السائدة هناك ، فإننا سندرك أنه من غير المرجح إلى حد كبير،أن تؤدي الانتخابات الحرة في العراق في المستقبل القريب، إلى إفراز حكومة علمانية موالية للأميركيين.
إن الانقسامات العرقية والدينية في العراق، غالبا ما تثير صراعات بين الأكراد، والتركمان، والشيعة، والسنة، والمسيحيين، وهي صراعات تنتج عنها مذابح رهيبة، ومصادرات بالجملة، ومشاعر كراهية عميقة، ورغبة في الثأر والانتقام. ويلاحظ أن لشيعة العراقيين، الذين يشكلون ستين في المئة من سكان البلاد، والذين عانوا قمعا قاسيا على أيدي الأقلية السنية ، هم أنفسهم أبعد ما يكونون عن التجانس. فالشاهد أن تحرير العراق من قبضة النظام السابق، قد أدى إلى إثارة الديماغوجية الدينية بين رجال الدين الشيعة المتنافسين ، كما أدى أيضا إلى ظهور حركات أصولية قوية في جميع مناطق البلاد. وليس بنا حاجة إلى القول إن هذه الحركات معادية بشدة للأميركيين، وللعلمانية، ولحقوق المرأة ، كما أنها غير ليبرالية أيضا. في الوقت نفسه، نجد أن الأقلية الكردية في الشمال والتي تشكل 20 في المئة من مجمل سكان البلاد، والفاقدة للثقة في حكم العرب، تعتبر هي الأخرى مصدرا عميقا من مصادر القلق. والديمقراطية ليست مسؤولة عن تلك الأوضاع، وإنما المسؤول عنها في الحقيقة، هو النظام الفاشي السابق، الذي قام بشكل منهجي بترويع الشيعة والأكراد، وأدت علمانيته السادية إلى ظهور وتنامي ظاهرة الأصولية في أوساط الشيعة العراقيين.
ولكن إلقاء اللوم على صدام لن يغير من الحقائق. وإذا ما أخذنا الأحوال السائدة الآن في العراق اليوم، يمكننا أن نقول إن التعجل في عقد انتخابات وطنية يمكن جدا أن يؤدي إلى راديكالية عرقية متجددة وإلى أعمال عنف، كما قد يؤدي إلى تولي نظام إسلامي غير ليبرالي للسلطة في العراق، أو حتى إلى تولي حكومة عراقية مناوئة للأميركيين، ومصممة على إبعاد الشركات الأميركية من حقول النفط . ولو تحققت أي نتيجة من تلك النتائج، فسوف يكون ذلك بمثابة موقف غاية في الحرج لإدارة بوش.. كما أنه إذا ما اجتمع الاثنان معا- أي إذا ما قامت حكومة دينية أصولية، ومناوئة للأميركيين في الوقت نفسه- فإن ذلك سيكون بمثابة الكارثة بالنسبة للمصالح الأميركية في العراق والشرق الأوسط..
ربما لهذه الأسباب مجتمعة، يحاول الرئيس بوش تنصيب حكومة ديمقراطية بنهاية شهر يونيو القادم، دون إجراء انتخابات شعبية.
والسؤال هنا هو : ما الذي يتعين علينا عمله في هذا الصدد؟ التراجع عن الديمقراطية ليس خيارا مطروحا بالطبع.. كما أنه ليس مطروحا أيضا، اتباع سياسة فرق تسد التي اتبعها البريطانيون في الماضي في العراق . يطرح ذلك أمامنا بديلا مختلفا للتعاطي مع المسألة، يتمثل في وضع كوابح على عملية الدمقرطة الوطنية، والتركيز على الطاقات والموارد اللازمة لإقامة ديمقراطية محلية- أي على مستوى المحليات. و الشيء الذي يدعو للدهشة حقا في هذا الصدد، هو أنه لم يتم إجراء انتخابات في أي مدينة أو بلدة في العراق حتى الآن. فالسياسة