دعونا نقول (كل عام وأنتم طيبون) ونحن نقصد أن نكون طيبين فعلا بأيدينا وأفعالنا· فقد دعونا لبعضنا بعضا بأن نكون طيبين مليارات المرات لمئات السنين دون أن نقصد أن نفعل ذلك بأيدينا لا أن نتركها للأقدار· وقد آن الأوان لنسيطر ولو قليلا على مصيرنا· وإلا - وهذا تهديد خطير - سيكون عام 2004 متصلا بمآسي وآلام عام 2003 الرهيب·
لكي نصنعها بأيدينا وأفعالنا يحسن أن نخصص هذا العام للمفاوضة الداخلية من أجل عقد اجتماعي وسياسي جديد نشكل مصيرنا من خلاله· لقد وقعت لنا الهزيمة تلو الأخرى بسبب ضعفنا· وليقصد العقد الجديد أن نبدأ في بناء قوتنا وإلا يحدث ما حدث لنا عام 2003 أبدا من جديد عندما سقطت بغداد وخر العراق محتلاً وأمعن الكيان الإسرائيلي في البطش بالشعب الفلسطيني دون أن نحرك ساكنا وتسابقت النظم العربية على آراء الأميركيين دون وجه حق·
إذا شئنا أن نعقد صفقة جديدة فلنبحث عما هو متفق عليه ويرضي أغلبنا أو جميعنا· وثمة شيء أو أشياء لا خلاف على أنها مفاتيح مهمة للقوة، وهي المعرفة والعلم والتكنولوجيا، وهي جميعا نتاج العقل الإنساني فالحكومات تشتري التكنولوجيا دون أن تفك طلاسم المعرفة الكامنة وراءها، فتفيد مراكز البحث والمعرفة في الدول الأجنبية المنتجة ولا تفيد بلادنا إلا قليلا· وحتى التنظيمات (الجهادية) وعلى رأسها تنظيم (القاعدة) تحترم العلم والتكنولوجيا وتدرك أهميته في بناء القوة· ولكنها توظفه في الإرهاب الذي يضر بالذات أكثر مما يضر بالغير ولا يقيم أمما أو دولا· ويعني مجتمع المعرفة منظومة مؤسسات وتيارا ثقافيا وسياسات عامة منهجية عاطفة على المعرفة ومشجعة على إنتاجها ولا تتعلق أو ترتهن بالأهواء·
ثم إننا لا نختلف حول دور الدين في المجتمع· وإنما يثور الخلاف حول الاعتدال والتطرف وحول فهم الدين وعلاقته بالتقاليد المرعية في النظم الدستورية المعاصرة بما في ذلك الضمانات القانونية للحريات العامة وتنظيم سلطات الدولة لمنع الطغيان وتشغيل دولاب من المؤسسات المستقلة والحامية للحريات والمديرة للمجتمع بنزاهة· وكما هو معروف ومألوف في العقود طرة يمكننا جميعا الأخذ بما هو متفق عليه وترك ما هو موضع خلاف· وما يثور الخلاف عليه هو التعامل مع الدين كإيديولوجيا سياسية· أما ما لا خلاف عليه ويرضي أكثرنا فهو الجانب الإيماني والأخلاقي من فهم الدين لأنه أهم جوانبه وأكثر ما نحتاجه في مجتمعات ضربها الفساد في العمق ويجرها الجشع إلى الهاوية· فغرس معاني الايمان الصافي والروحانية النبيلة ينقذ مجتمعاتنا من أسوأ أمراضها بل من أسوأ الأمراض في المجتمعات الحديثة عموما· فلو صلح أمرنا بالايمان والقيم الأخلاقية السليمة لما صرنا بحاجة إلى الدعاية للاسلام لأنه سيكون قد بهر الدنيا بما نصير عليه ونحققه عبر الصلاح والاصلاح الأخلاقي كبديل لواقع لا يرى فيه البعض تناقضا بين المناداة بالدين وممارسة شعائره من ناحية والاستئثار بمال استخلف الله فيه جميع خلقه من المواطنين وخصصه للإعمار لا للملذات والجشع في الاكتناز بذاته من ناحية أخرى·
ثم إننا نحتاج إلى معيار لتسوية الخلافات وتحويلها إلى فاعلية اقتراحية قد تأخذ حظها من التجريب والتحسين. وقد ثبت يقينا أن اطلاق حرية المعرفة والتعبير وبناء الحكومة الديمقراطية هو وحده الذي يمكن أن ينشئ معيارا نزيها للحيلولة دون الاستئثار بالسلطة والاستبداد بها أو توظيفها لما لا يخدم مصلحة عامة أو قيمة صالحة أو باقية·
هذا -فيما يرى عقلاء الأمة ومفكروها - هو العقد الأساسي الذي ينعش الحضارة ويؤسس للقوة الأخلاقية والمادية أو هو صفقة القرن التي نصبح بها ونمسي طيبين عاما بعد عام·
كانت هذه الصيغة هي ما اجتمع عليه علماء الدين والدنيا في سياق البحث عن (الإحياء والنهوض) القومي منذ منتصف القرن التاسع عشر· وهي أيضا الصيغة التي لا يزال عقلاء الأمة وعلماء الدين والدنيا فيها يرونها صالحة كمنطلق وبداية للنهوض بعد أن سار بنا الاستبداد والجهل والجشع إلى سوء المصير كما رأينا خلال عام 2003 والأعوام التي سبقته·
هذا العقد الاجتماعي والسياسي الجديد يحتاج إلى تفاصيل كثيرة· وتأتي هذه التفاصيل في حوار متصل ندعو إلى أن نخصص له هذا العام كله دون أن نستبعد من الحوار طرفا يمكن أن يوقف مسار النهوض أو يعطل الأخذ بهذا العقد أو يوقف هذه الصفقة الجديدة·
بل إن الحوار ذاته يمكن أن يشكل طوق النجاة للجميع أو على الأقل الغالبية من القوى الفكرية والسياسية على مستوى الأقطار وعلى المستوى العربي العام· فالحوار يمكن أن ينقذ حتى القوى الجهادية بما فيها غالبية كوادر تنظيم (القاعدة) من الموت والدمار ومواصلة الإضرار بالأمة· وليس لدي شك في أن عرض حوار ومفاوضة جادة مع غالبية أعضاء التنظيمات الجهادية يمكن أن يؤدي إلى وقف الارهاب إذا كان البديل له هو برنامج للنهضة·
أما الحكومات فهي معرضة لضغوط خارجية كبيرة· وقد تنفجر في وجهها الشعوب من الداخل في أي وقت· وحتى لو لم يحدث هذا أو ذاك فهي تفقد شرعيتها واحتراميتها في ا