كانت سنة 2003 سنة غير عادية في التاريخ السعودي. تحدثت عن ذلك في مقالة سابقة. ولمجرد الإضافة هنا أشير إلى أن الأيام الأخيرة من هذه السنة في السعودية انقضت على وقع أحداث أخرى تضيف إلى تميزها عما قبلها. من ضمن هذه الأحداث تعديل مادتين من نظام مجلس الشورى، بما يعزز السلطة التشريعية للمجلس، وإحداث منصب وزاري جديد لشؤون مجلس الشورى. وأخيرا انعقاد الدورة الثانية من الحوار الوطني في مدينة مكة وانتهت يوم الأربعاء الماضي، آخر أيام السنة. وتشير التسريبات إلى أن التوصيات التي تم الاتفاق عليها، وسترفع إلى ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، تشمل تعديل المناهج التعليمية، لا سيما المناهج الدينية، وتعزيز حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وتوسيع هامش الحرية في الإعلام، وإفساح المجال أمام قيام مؤسسات المجتمع المدني، وتبني آلية الانتخاب لمجلس الشورى ومجالس المناطق. كما شملت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، وتوفير حرية التعبير أمام أصحاب كل المذاهب الدينية في السعودية. في الوقت نفسه جاءت الأنباء بأن مجموعة من المثقفات السعوديات يعكفن على إعداد وثيقة حول دور المرأة وحقوقها في المجتمع السعودي.
تومئ هذه الأحداث، وغيرها، بأن السعودية تنتظر تغيرات سياسية وثقافية لم تعهدها من قبل. أقول تومئ بمعنى الاحتمال والتوقع، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الإيماءات قد تأتي في قادم الأيام بعكس ما تومئ به الآن. وذلك لأن كل هذه المؤشرات لم تأت ضمن برنامج إصلاحي واضح تتبناه الحكومة.
من هنا وعلى رغم كل المظاهر الإصلاحية فإن غياب برنامج إصلاحي يعني أن فكرة الإصلاح السعودي لم تتجاوز بعد المأزق الذي وجدت فيه منذ البداية. يتمثل هذا المأزق حاليا في أمرين. الأول أن المطالب الإصلاحية المقدمة للحكومة مطالب طموحة جدا، وتتطلب تغيرات كبيرة في مفهوم الدولة، وعلاقتها بكل من الحكومة والمجتمع. والثاني أن الحكومة، وهي في الظرف الراهن الطرف الوحيد الذي بيده أمر تفعيل الإصلاحات، لم تحسم أمرها بعد حول هذا الموضوع، وهي تتعامل مع المطالب الإصلاحية بطريقة إيجابية، لكنها غير واضحة ومحددة المعالم. فهي لا ترفض هذه المطالب جملة وتفصيلا، لكنها لا تقبلها أيضا جملة وتفصيلا. الأكثر من ذلك أن الحكومة لم تعلن حتى الآن عن الذي تقبله من هذه المطالب، والذي ترفضه منها. من ناحية تقول إنها معنية بالإصلاح، ويهمها أمره. وهذا موقف إيجابي بلا شك. إلا أن الحكومة، من ناحية أخرى، لا تقول: ما الذي تعنيه تحديدا بالإصلاح الذي يهمها أمره؟ أو بعبارة أخرى ما هو مفهومها للإصلاح؟ ما هي حدود هذا الإصلاح؟ وما هي النتائج التي ينبغي أن يؤدي إليها في نهاية المطاف؟
قد لا ننتظر طويلا قبل معرفة الإجابة على كل، أو بعض هذه الأسئلة. فأمس السبت يكون ولي العهد قد استقبل وفد اللقاء الثاني للحوار الوطني، وتسلم التوصيات التي انتهى إليها هذا اللقاء. وبالتالي سوف، أو يجب أن نعرف طبيعة الموقف الرسمي من هذه التوصيات. من الناحية العملية هذا يعني أن الحكومة طرف في الحوار، وتتقبل أن يرفع إليها من التوصيات ما يقال إن المتحاورين أوصوا بها، مما يعتبر مؤشراً إيجابياً آخر يحسب لهذه الحكومة ولموقفها من فكرة الإصلاح. لكن من زاوية أخرى، ينبغي ملاحظة أن الحكومة هنا طرف غير مشارك بشكل مباشر في الحوار، وإنما طرف يشرف على ما يدور من حوار، وعلى اختيار أطراف هذا الحوار. فالحكومة، ممثلة بولي العهد، هي التي دعت إلى اللقاء، وهي التي وفرت الإطار والغطاء الرسميين للحوار، وهي التي اختارت المشاركين في الحوار، وحددت موضوعات وحدود الحوار. المتحاورون ينتمون إلى تيارات ومذاهب مختلفة: ليبرالية من ناحية، إذا صح التعبير، ودينية من ناحية أخرى. والتيار الديني من ناحيته ينقسم إلى مذاهب هي السنة والشيعة والإسماعيلية والصوفية. وأن يجتمع كل هؤلاء تحت مظلة الحوار أمر يشكل خطوة متقدمة إذا ما كانت مؤشراً على بداية التصالح وقبول الآخر الفكري والمذهبي. أصبح بإمكان الحكومة أن تحقق نجاحا واضحا في أنها جعلت من نفسها حكما بين تلك التيارات والمذاهب، ونقطة التقاء لها. وهذا بحد ذاته ينبغي أن يشجع الحكومة على المضي في تبني برنامج واضح وطموح للإصلاح. لأنه يعني أن المطالب الإصلاحية لا تتعارض مع شرعية الدولة، بل ستؤدي إلى تعزيز هذه الشرعية.
لعله من الواضح أن الهدف من الإصلاح المنشود هو توسيع المشاركة السياسية. والقبول بضرورة الإصلاح يعني قبولا بأن غياب المشاركة كان أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت النظام السياسي السعودي أخيرا في أمس الحاجة إلى الإصلاح. والسؤال هنا هو: هل قبلت الحكومة بمفهوم المشاركة كهدف أساسي للإصلاح؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما هو مفهومها لهذه المشاركة؟ وما هي الحدود، وفقا لهذا المفهوم، التي ينبغي أن تقف عندها هذه المشاركة؟ إذا تذكرنا أن الأمير عبدالله هو أول مسؤول سعودي بهذا المستوى استخدم تعبير (المشاركة السياسية)، ثم استخدمه مسؤولون آخرون من بعده، أبرزهم وزير الخارجي