في مكان ما بين الأرض والمريخ يرقد غول مَجري هائل، أو وحش غير مرئي يلتهم السفن الفضائية في وجبة الغداء، ثم يلفظ بقاياها في الفراغ المظلم البارد. فعبر العقود الأربعة الماضية، قام البشر بإرسال 63 سفينة فضائية إلى كوكب المريخ، تعرضت عشرون منها إلى كوارث إما بالانفجار في الطبقات العليا من الغلاف الجوي لكوكب الأرض، أو التحطم على سطح الكوكب، أو الدوران الأبدي في أعماق الفضاء اللانهائي.
وليس من عجب والحال هكذا، أن يطلق علماء الفضاء على كوكب المريخ اسم (كوكب الموت). فمنذ أسابيع، اعترفت اليابان بموت مهمتها الأولى والوحيدة إلى المريخ، التي أطلقت عليها اسم (نوزومي) (لفظة يابانية تعني (الأمل))، وذلك بعد أن تعرضت على مدى خمس سنوات لعواصف فضائية لا تتوقف، وإلى أعطال، وسوء تقدير، دون أن تتمكن من الوصول إلى الكوكب أبدا.
(الفضاء قاس ولا يرحم).. هذا ما يقوله (لويس فريدمان) المدير التنفيذي لجمعية الكواكب، في مدينة باسادينا، بولاية كاليفورنيا، وهي جمعية تهدف إلى دعم جهود استكشاف الفضاء. ويضيف (فريدمان) إلى ذلك قوله: (يمكنك أن تفعل عشرة آلاف شيء على نحو صحيح، ولكنك عندما تفعل شيئاً واحداً على نحو خاطئ، فإن مصيرك يصبح محتوما)·
وشبح (كوكب الموت) يطل برأسه في الوقت الراهن بمناسبة إطلاق (بيجل-1) وهي سفينة بريطانية من قبل وكالة الفضاء الأوروبية· أما السفينتان الأخريان، فهما أميركيتان ستهبط الأولى على سطح الكوكب في الثالث من يناير، أما الثانية فستهبط في اليوم الرابع والعشرين من الشهر نفسه.
ونسبة المخاطر المتضمنة في الرحلتين الأميركيتين كبيرة. يمكننا أن ندرك ذلك، إذا ما عرفنا أنهما تمثلان أول محاولتين تقوم بهما وكالة (ناسا) الفضائية الأميركية منذ كارثة المكوك كولومبيا التي وقعت منذ عامين.
وفي هذه المرة، قام مختبر الدفع النفاث التابع للوكالة والواقع في (باسادينا) بإجراء سلسلة لم يسبق لها مثيل من الاختبارات المتعلقة برحلات الطيران، التي لا تحمل بشرا على ظهرها. فقبل إرسالهما إلى الفضاء، تم تعريض المركبتين لدرجات حرارة عالية جدا وصلت إلى 320 درجة فهرنهايت، وإلى سطوع ضوئي يزيد على ذلك المنبعث من الشمس بمرتين، و إلى أصوات عالية جدا كانت كافية لإزالة حبيبات الطلاء من على جدران حجرة الفحص، و هز الأرض الواقعة حولها وكأنها زلزال. علاوة على ذلك جرى تنفيذ الآلاف من تجارب الهبوط الوهمي باستخدام نموذج كمبيوتري، كما تم إطلاق مركبة جوالة فوق نموذج وهمي لسطح المريخ، يقع في منطقة رملية صخرية في تلال باسادينا، و اعتماد ميزانيات عديدة للنظر في عدد لا متناه من سيناريوهات الخطر.
يقول علماء ومهندسو المشروع إنهم قد فعلوا كل ما بوسعهم كي تكون الرحلة آمنة، ولكن يبقى مع ذلك خصم لا يملكون سوى أن يحنوا رؤوسهم أمامه وهو: عنصر المجهول.
ومن المعروف أن السوفييت هم أكثر من تعرض إلى كوارث فضائية في رحلات استكشاف كوكب المريخ . فبالإضافة إلى المحاولة الفاشلة التي قامت بها روسيا عام 1996 للهبوط على سطح الكوكب ،فإن أربع عشرة محاولة من المحاولات الثماني عشرة التي قاموا بها، قد انتهت بالإخفاق.
وكانت الشرائح الإليكترونية الفاسدة التي استخدمها السوفييت، وأخطاء البرامج والكوارث التطبيقية هي السمة التي طبعت برنامج المريخ السوفييتي، الذي فشل فشلا ذريعا في تحقيق نجاح يعتد به. وكانت آخر تجربة تمت عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، هي تلك التي قام بها الروس بمعاونة من دول أوروبية عام 1996، في محاولة منهم لإحياء برنامج اكتشاف الكواكب الذي كان قد توقف تقريبا. وفي هذه الرحلة تحطم المسبار الذي أرسلوه وسقط عائدا مرة أخرى إلى سطح الأرض، دون أن يعرف أحد حتى الآن ما الذي حدث له. وتلك الإخفاقات لم يكن سببها نقص الكفاءة، إذ أنه من المعروف أن السوفييت هم سادة برامج الوصول إلى كوكب الزهرة، الذي يعتبر أقرب الكواكب إلى الأرض (أرسلوا 15 رحلة إليه حققت جميعها النجاح)، أما رحلاتهم إلى المريخ فقد انتهت جميعها بالإخفاق كما سبق وأن بينا آنفا.
بالمقارنة مع السوفييت -والروس من بعدهم- حققت رحلات استكشاف المريخ الأميركية نجاحا لا بأس به. فمما يذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة قد قامت بإرسال أربع عشرة رحلة إلى الكوكب تعرضت خمس منها فقط إلى الإخفاق. ففي عام 1975، كانت الولايات المتحدة هي أول دولة تنجح سفن فضائية تابعة لها في الهبوط على سطح كوكب المريخ وهما السفينتان (فايكنج-1) و(فايكنج-2)· وفي عام 1996 أثبت الجوال (باث فايندر) إمكانية إحلال الروبوتات محل البشر في اكتشاف العوالم النائية. علاوة على ذلك فإن المركبتين الأميركيتين اللتين تقومان بالدوران حول المريخ وهما (جلوبال سيرفيور) و(أوديسي) لا زالتا تقومان حتى الآن بتصوير خرائط لسطح المريخ، وهي الخرائط التي سيتم الاعتماد عليها إلى حد كبير في تحديد مواضع الهبوط في المهام الفضائية الحالية.
على أن ذلك لا يحول بيننا وبين القول إن الولايات المتحدة الأميركية قامت با