سيكون عام 2004 عاماً يقدم كل الأجوبة، حيث سنعلم فيه ما إذا كان (جورج دبليو بوش) سيبقى رئيساً للولايات المتحدة. وسوف يُنبئنا مصير (بوش) بما إذا كان التحول الأساسي الذي طرأ على السياسة الخارجية الأميركية في ما بعد الحرب سيدوم إلى ما بعد شهر نوفمبر 2004، وسوف نكتشف أيضاً ما إذا كان جمهور الناخبين يؤيد الحرب الاستباقية والوقائية، التي يتم شنها عندما تحكم الإدارة الأميركية بأن شنها أمر تقتضيه الضرورة.
وهكذا سنعلم ما إذا كان (بيان الاستراتيجية القومية)، الذي أطلقته إدارة (بوش) في سبتمبر من عام 2002، قد شكّل هفوة بسيطة في السياسة والأخلاقيات العسكرية التقليدية، أو كان انعكاساً لتمزّق دائم في طريقة تفكير الأميركيين حيال بقية العالم. وبدوره سينبئنا ذلك أوتوماتيكياً بما إذا كان تعاون الحلفاء والتعددية البنّاءة التي تجلت في السياسة الأميركية بعد الحرب، قد انتهيا بالفعل.
سوف نعرف من الذي فاز في العراق.
يشكّل العراق القيمة المتغيرة المتقلبة الأهم في أية محاولة لتقييم وتوقع موقف الولايات المتحدة بعد سنة من الآن. وإذا شهد عام 2004 وجود حكومة عراقية مضمونة وآمنة أو على الأقل حكومة عراقية تتمتع بحق السيادة ولو بالاسم بعد سنة من الآن إلى جانب القواعد الأميركية المتمركزة في العراق، فإن ذلك سيعني والحال كذلك أن الولايات المتحدة قد كسبت حرب العراق. غير أن هناك احتمالاً ضئيلاً لوجود حكومة كتلك في العراق.
وباعتبار أن هناك احتمالاً لخسارة الولايات المتحدة لحرب العراق، فإن من الضروري أن تجري مناقشة تلك الإمكانية على نحو جاد وعلى مستوى السياسات القومية. ذلك أن هناك افتراضاً عاماً شاملاً يقول إن القوة الأميركية سوف تسحق أي شيء يقف في طريقها ويقاومها. صحيح أن هناك منتقدين حذّرونا من (فيتنام جديدة)، غير أنهم يطلقون تلك التحذيرات دوماً بمفردات توحي فقط بأن النصر النهائي سيفوق في تكاليفه ما توقعته حكومة (بوش).
إن المقارنة بين العراق وفيتنام مقارنة خاطئة من الناحية العسكرية. فمن المؤكد أن المتمردين في العراق لا يشكلون الآن حركة وطنية منظَّمة ومنضبطة تحظى بالتأييد وتتلقى إمدادات كبيرة بالأسلحة والقيادة عبر حدود العراق مع بلد شقيق مجاور يحظى هو نفسه بحماية القوة النووية. هكذا كانت حالة فيتنام، حين كانت فيتنام الشمالية والصين تقدمان الدعم للعصيان المسلح الذي قادته (جبهة التحرير الوطنية) الفيتنامية.
على أن المقارنة المناسبة ما بين فيتنام والعراق هي المقارنة السياسية، باعتبار أن هناك تطابقاً ما بين طموح إدارة (بوش) في العراق وطموح إدارات كل من (كينيدي) و(جونسون) و(نيكسون) في فيتنام، وهو طموح يقتضي إيجاد أو تشكيل حركة وطنية معقولة وذات مصداقية داخل البلد المعني (العراق أو فيتنام) لتحويله إلى حليف استراتيجي أميركي في المنطقة المعنية.
وفي فيتنام، كانت هناك منذ البداية قوة قومية وطنية ذات توجهات غربية وضمّت في صفوفها الطبقات الوسطى المؤلفة من أفراد النخبة الكاثوليكية المتعلمة المثقفة الذين أداروا البلاد عندما كانت مستعمرة فرنسية. غير أن أولئك كانوا يمثلون قطاعاً ضيقاً ضمن جموع السكان الفيتناميين، وكانوا أضعف من أن يتغلبوا على حركة التحرير الوطنية التي يقودها الشيوعيون والتي كانت تتمتع بديناميكة كبيرة.
وقد جمعت تلك الحركة بين صفوفها ما بين التوجهات الوطنية القومية لدى الفلاحين والقرويين من جهة، والطوباوية الماركسية من جهة أخرى، إضافة إلى أنها كانت قوة وطنية متنامية منذ بداية القرن العشرين.
وقد أصيبت إدارة (كينيدي) بالإحباط من إخفاق (نو دين دييم) في فرض سلطته على كل أنحاء البلاد - وهو الكاثوليكي والقومي الفيتنامي الذي أعاده الأميركيون من منفاه في الولايات المتحدة إلى فيتنام ونصّبوه في سدة الحكم. ولذلك عمدت إدارة (كينيدي) إلى التحريض على انقلاب عسكري في فيتنام أدى إلى مقتل (نو دين دييم)، لتضع مكانه في سدة الحكم الجنرال الأول في سلسلة الجنرالات الذين تعاقبوا على الدور وأخفقوا فيه أيضاً واحداً إثر الآخر. وقد كان السبب الأساسي لإخفاقهم نابعاً من كونهم يمثلون مصالح وأفكار الولايات المتحدة في مقابل القومية الفيتنامية. وفي نهاية المطاف، تخلت إدارة (نيكسون) عن (نغويين فان ثيو)، وهو الجنرال الأخير في تلك السلسلة، وانسحبت رسمياً من الحرب وهي تعتبر هذه العملية (فتنمة) · وعندما سقطت (سايغون) بعد مضي عامين، ألقى الرئيس (نيكسون) اللوم على الكونغرس الأميركي وعلى الصحافة الحرة الليبرالية.
وها هي إدارة (بوش) ما زالت تبحث، في العراق، عن نظير عراقي لـ (نغو دين ديم)·
إن إدارة (بوش) تتجاهل الدرس السياسي الفيتنامي، والذي يقول إنه ليس هناك زعيم في العراق مؤهل لحشد البلاد وراءه ولحشد العناصر الدينية الرئيسية أو الإثنية (باستثناء الأقلية الكردية)· ويحمل برنامجاً لا يقتضي ويشترط السيادة الوطنية المستقلة وإنهاء الاحتلال الأميركي إضافة إلى التجديد الوطني بشروط العراق ومفرداته