مرض جنون البقر ينتمي إلى عائلة من الأمراض القاتلة للبشر ولغيرهم من أنواع الثدييات، تنتج عن الإصابة بعناصر معدية، غريبة، تختلف كل الاختلاف عن أية عناصر أخرى معروفة لدى علماء البيولوجيا (الأحياء)·
وهذه العناصر الغريبة التي لا يمكن إدراجها ضمن البكتيريا، أو الفيروسات أو حتى (البروتوزوانات Protozoans وحيدة الخلية)، هي عناصر معدية يطلق عليها (البريونات) Prions . والبريونات هي جزيئات بروتينية متناهية الصغر وناقلة للعدوى، تتكون من سلسلة من البروتينات التي لا تحمل حمضا نوويا، أو أية مادة جينية، والتي حيرت العلماء على مدى السنوات الأخيرة ، حيث وقفوا عاجزين عن معرفة الطريقة التي تتسبب بها هذه المواد في الإصابة بالأمراض.
كان السؤالان اللذان واجها هؤلاء العلماء، دون أن يستطيعوا أن يعثروا لهما على إجابة شافية هما: كيف يمكن لمادة ما أن تتكاثر داخل جسم الحيوان، بل وتنتشر أيضا إلى حيوان وحيوانات أخرى، إذا لم تكن قادرة أصلا على استنساخ نفسها؟ والثاني، كيف يمكن لمادة أو عنصر، أن يقوم باستنساخ نفسه لسنوات عديدة ، دون مساعدة من نوع معين من المواد الوراثية مثل الحمض النووي الريبي. Deoxyribonucleic Acid الذي يعرف بـ(DNA) على سبيل الاختصار.
وهنالك أسئلة عديدة غير هذين السؤالين واجهت العلماء، قبل أن يأتي عالم وينجح في تقديم الإجابة عليهما. وكان نجاح هذا العالم الأميركي واسمه (ستانلي بروسينر) -يعيش ويعمل في ولاية كاليفورنيا- في ذلك سببا جعل الأكاديمية السويدية تقرر منحه جائزة نوبل عام 1997· لقد اكتشف ( بروسينر) أن البريونات Prions صغيرة الحجم، إلى درجة أن حجمها يقل عن حجم الفيروسات وأنها توجد في شكلين: الشكل الطبيعي أو المعتاد، والشكل غير الطبيعي وهو الشكل المعدي والمسبب للأمراض. وقد لاحظ (بروسينر)، كما لاحظ علماء آخرون أن الشكلين في النهاية يكادان يكونان متطابقين في كل شيء، باستثناء شيء واحد وهو أن أحدهم مطوي، وذو شكل أكثر تشابكا من الآخر.
حتى الآن لا يعرف العلماء ماذا تستطيع البريونات الطبيعية أن تفعل، أو ما هو دورها على وجه التحديد؟ وذلك على رغم وجود قرائن على أنها تلعب دورا في نقل مادة النحاس داخل الجسم. بيد أن ما يمكن قوله لدواعي الدقة العلمية إنه لم يتسن للعلماء التأكد من ذلك بشكل قاطع ويقيني من خلال التجارب الإكلينيكية حتى لحظتنا هذه.
ولكن بروسينر اكتشف شيئا مهما. لقد اكتشف أنه بمجرد أن يقوم بريون من البريونات شاذة الشكل، بالدخول إلى جسم حيوان (عن طريق منتجات اللحوم الملوثة التي يتم تقديمها كغذاء للماشية أحيانا)، فإنه يستطيع عندئذ أن يقوم بلصق نفسه في بريون طبيعي في الجسم، و إجبار هذا البريون الآخر على تعديل شكله الطبيعي، واتخاذ ذات الهيئة الشاذة له. لذلك ، فإن البريونات المشوهة الشكل -بخلاف العناصر المعدية الطبيعية، التي تقوم بتطوير نفسها من خلال إنتاج أجنة مثلا- تقوم بتطوير نفسها عن طريق تجنيد البريونات الطبيعية لخدمة قضيتها، إذا ما جاز لنا الاستعانة بمفردات الخطاب السياسي في هذا المقام. وعندما تتسع موجة التحولات، فإنها تؤدي إلى إنتاج المزيد من البريونات الضارة، التي تتراكم في الجسم. وتقوم بعد ذلك بالانتقال عبر الجهاز العصبي للحيوان، كي تبدأ في إحداث أثرها المدمر على المخ. وبمرور الزمن تتسبب هذه البريونات في تكون جيوب من الأعصاب التالفة، الأمر الذي يغير من شكل المخ، ويحوله إلى شكل إسفنجي، يؤدي بعد ذلك إلى هلاك الحيوان قبل أن يستطيع أحد التدخل لعلاجه وإنقاذه .
والأمراض البريونية التي يطلق عليها في مجملها اسم >الأمراض المخية الإسفنجية الشكل القابلة للانتقال بالعدوى( transmittable spongiform encephalopathies أو TSE`s على سبيل الاختصار)،تتنوع إلى حد ما وفقا لنوع الحيوان الذي تصيبه. ففي البقر يعرف المرض باسم جنون البقر، وفي الأغنام يعرف باسم scrapie (مرض يصيب الجهاز العصبي للأغنام) وتتمثل أعراضه في حدوث تقلصات حادة وحكة شديدة، ووهن، ثم شلل في النهاية). أما في البشر فإن المرض يعرف باسم (مرض كروتزفيلد – جاكوب) وهو عبارة عن مرض الأرق الوراثي القاتل، ومرض الكورو Kuru) ) وهو مرض يصيب، منذ عقود طويلة، قبيلة معينة في إقليم بابوا في غينيا الجديدة يقوم أفرادها بأكل أمخاخ أقاربهم الموتى.
في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، اكتشف العلماء نسخة جديدة من مرض بريون البشري، أي الذي يصيب البشر، أطلق عليه الشكل البديل لمرض CJD، وهو ينشأ عن أكل لحوم الأبقار المصابة بعدوى البريونات. ومثله مثل أمراض البريونات الأخرى، فإن فترة الحضانة بين الإصابة بالعدوى، وبين ظهور الأعراض، يمكن أن تمتد لأربعة عقود الأمر الذي يجعل من الصعب تتبع مصدر المرض، أو معرفة سبب العدوى، كما يجعل من الصعب أيضا إيقاف المرض مبكرا إذا ما بدأ في الانتشار بشكل وبائي، نتيجة لأنه يظل كامنا وغير مرئي لسنوات عديدة.
حتى الآن لم يتم التوصل لعلاج ناجع للأمراض البريونية، خصوصا إذا ما