تؤتي الديمقراطية أكلها في بعض الأحيان. ومع أن خطى المحاسبة قد تمضي وئيدة ومتثاقلة، إلا أنها ستصل إلى هدفها في نهاية المطاف، خاصة إن كان وراءها مواطنون حريصون يشحذون فكرهم وأذهانهم. وما نشر الوثائق الرسمية التي تم الحصول عليها عبر قانون (حرية المعلومات) سوى خطوة أولى على هذا الطريق. بقي أن نقول إن الوثائق المشار إليها تبين بالتفصيل كيف أن إدارتي الرئيسين السابقين رونالد ريجان وجورج بوش الأب، قد واصلتا دعمهما للرئيس العراقي السابق صدام حسين،على رغم استخدام صدام المتكرر للأسلحة الكيماوية.
هذا هو ما يكشفه لنا عمل منظمة (أرشيف الأمن الوطني) وهي منظمة رقابية تكافح من أجل المزيد من الشفافية الحكومية. تلقي المنظمة عبر جهودها هذه، الضوء على تفاصيل مذهلة، عثرت عليها في تلك الوثائق، التي تبين كيف تحالفت الولايات المتحدة الأميركية وبعض الشركات والمؤسسات-بما فيها شركة (بكتيل)- مع ديكتاتورية صدام حسين. وتشير هذه الوثائق إلى ما يفضح هذا الشعور بالتفوق الأخلاقي الذي يبديه الرئيس بوش الآن. كما سيكون لها تأثيرها على الطريقة التي تحكم بها وسائل الإعلام والجمهور على صدام حسين، هذا الديكتاتور الوحش الذي ساعدنا في صناعته بأيدينا.
وفيما لو عقدت محاكمة صدام حسين أمام هيئة قضائية دولية محايدة، فإن هذه الوثائق سوف تقدم الدليل الدامغ على هذه السياسة الخارجية المحرجة ذات الحدين، التي يتبناها البيت الأبيض الأميركي. وفي حال إجراء تحقيقات نزيهة و شاملة حول من الذي قدم العون وحض صدام حسين على ارتكاب جرائمه الوحشية البشعة ضد الإنسانية، فإنه ليس مستبعدا أن يمثل كل من وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد ووزير الخارجية السابق جورج شولتز، بوصفهما شاهدي إثبات على التورط الأميركي.
فقد كان رامسفيلد وشولتز هما من أبلغ صدام حسين ومبعوثيه أن التصريحات الأميركية التي تستهجن استخدام الأسلحة الكيماوية بشكل عام، لن تؤثر على حسن العلاقات التي تربط بين النظام العلماني في العراق، وإدارة الرئيس رونالد ريجان، سيما وأن الإدارة قد رفعت اسم العراق من قائمة الدول الإرهابية، واعتبرته ترياقا لها ضد الأصولية الإسلامية التي تمثلها طهران. ومن سخرية الأقدار أن تدعم الولايات المتحدة الأميركية العراق، وتبارك استخدامه لأسلحة الدمار الشامل التي كانت بحوزته فعلا، بينما تغزوه وتخوض حربا عليه، حين صار خاليا من تلك الأسلحة.
فقد حدث قبل عشرين عاما أن اجتمع كل من وزير الخارجية جورج شولتز وأحد كبار مساعديه، مع أحد كبار مبعوثي الرئيس العراقي صدام حسين. وقتها كان العراقيون هم أفضل حلفائنا وأصدقائنا الجدد قاطبة في منطقة الشرق الأوسط، بسبب خوضهم حربا طاحنة مع إيران. حينها كان شولتز قد قصد أن يؤكد للأصدقاء العراقيين بما لا يدع أدنى مجال للغموض أو الشك، أن الانتقادات الأميركية الموجهة ضد استخدام الأسلحة الكيماوية، هي ليست سوى مسألة استهلاك عام لا أكثر، وأنها ليست أكثر من مجرد تأكيد لفظي للسياسة الأميركية (الثابتة) إزاء ذلك النوع من الأسلحة. وبالتالي فإن التصريحات المذكورة لا علاقة لها البتة بالتعبير عن موقف موال لطهران، ومعاد في الوقت ذاته للعراق. ثم مضى إيجلبرجر مساعد وزير الخارجية للحديث عن أنه (ستظل رغبتنا وأفعالنا الرامية للحيلولة دون إحراز نصر إيراني، واستمرار العلاقات الثنائية بين بلدينا كما هي، ودون أن يقلل منها شيء). ذلك هو ما أوردته الوثيقة السرية المصنفة بالغة الحساسية عن الاجتماع المذكور.
يضاف إلى ذلك أن اجتماع شولتز-إيجلبرجر المشار إليه قد تم في وقت قام فيه دونالد رامسفيلد بزيارات حاسمة إلى العراق، بوصفه مبعوثا للرئيس رونالد ريجان. وكان الغرض من تلك الزيارات هو تقديم دعم غير مشروط للزعيم العراقي في حربه ضد طهران. وفي الاجتماع الأول المنعقد في ديسمبر من عام 1983، قال رامسفيلد لصدام حسين إن أميركا سوف تساعد في بناء خط أنابيب نفطي، يمتد من العراق عبر العقبة إلى الأردن. ولم يورد رامسفيلد أية إشارة للأسلحة الكيماوية، على رغم إشارة الاستخبارات إلى أن صدام حسين كان يستخدم الأسلحة الكيماوية ضد الإيرانيين والأكراد قبل أشهر قليلة من ذلك اللقاء. وقتها لم تكن عين الإدارة على المجزرة الناجمة عن استخدام الأسلحة الكيماوية، وإنما على الأرباح الهائلة التي تدرها صناعة النفط! وهكذا تسقط (الجعجعة) وكل الغبار الأخلاقي الذي أثاره الرئيس الحالي بوش، في تبرير غزوه للعراق. فقد كنا وكان وزير دفاعه الحالي، أكثر علما باستخدامه الشائن لتلك الأسلحة المحظورة ضد البشرية. بل المؤسف أننا ساعدناه اقتصاديا وعسكريا، وغضضنا الطرف عن جرائمه الشائنة تلك.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة (لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست)
ينشر بترتيب خاص مع خدمة )لوس أنجلوس تايمز<
تؤتي الديمقراطية أكلها في بعض الأحيان. ومع أن خطى المحاسبة قد تمضي وئيدة ومتثاقلة، إلا أنها ستصل إلى هدفها في نهاية المطاف، خاصة إن كان وراءها مواطنون ح