كثيرة هي الأصوات التي ارتفعت عقب اعتقال صدام حسين، مطالبة بمثوله أمام محكمة دولية، وليست محلية عراقية. والحجة الرئيسية التي يستند عليها هذا المطلب، هي أن النظام القضائي العراقي ليس من التطور ولا الأهلية بحيث يستطيع التصدي لمحاكمة بهذا القدر. وفي اعتقاد كبرى المنظمات الدولية الناشطة في مجال حقوق الإنسان، فضلا عن عدد من القضاة الدوليين المرموقين، أنه ما من محكمة تستطيع أن توفر ضمانة لنزاهة محاكمة صدام، وإضفاء شرعية قانونية على إجراءاتها،سوى محكمة دولية تنظمها الأمم المتحدة. وعلى رغم إقرارنا وتفهمنا لوجاهة ومنطقية النوايا التي يقوم عليها هذا المطلب، فإنه لا يخلو من روح وصاية وأبوية واضحة على الشعب العراقي. كما يعكس المطلب نفسه تضادا صارخا لهذا النموذج للعدالة الجزائية الدولية، مع النظام العدلي الذي أنشأته محكمة الجزاء الدولية.
قبل ثلاثة أيام من اعتقال الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كان مجلس الحكم العراقي المؤقت قد أعلن عن تشكيل محكمة عراقية خاصة، تتصدى لمحاكمة أعضاء نظام حزب (البعث) على عدد من الجرائم التي يتهمون بارتكابها، على أن تتم تلك المحاكمات تحت القانونين العراقي والدولي على حد سواء. وكان النظام القانوني الذي أنشئت بموجبه المحكمة العراقية المذكورة، قد طلب مساعدات قانونية دولية واسعة، شملت القضاة والمحامين واختصاصيي الطب الشرعي والإثبات الجنائي والمحققين وممثلي الادعاء والدفاع ومختلف أشكال المهن القانونية. وتحت الضغوط المكثفة التي مارستها المنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان، تم تعديل ذلك النظام القضائي الذي أنشئت بموجبه المحكمة المذكورة، بحيث يسمح بمشاركة قضاة دوليين في المحاكمة المرتقبة.
غير أن نصوص النظام الصادر بإنشاء المحكمة إياها، لم تمض بعيدا لتتسع لمطالبات عدد من المنظمات الناشطة في حقوق الإنسان، سواء الأميركية منها أم الأوروبية. ذلك أن النظام لم يتضمن مطالبتها بإنشاء محكمة دولية بالكامل، يكون لها اختصاصها وحدها، في محاكمة صدام حسين وغيره من متهمي ومجرمي حزب (البعث). السؤال الذي لا بد من إثارته هو: ولم المطالبة بإنشاء محكمة دولية صرفة لا علاقة لها بالعراقيين؟ فإذا كان الخوف هو أن تكون المحكمة العراقية محكمة تابعة، لا حول لها ولا قوة، أنشأتها حكومة تابعة، لا حول لا لها ولا قوة هي الأخرى، فما الذي يمنع إضافة قضاة وقانونيين دوليين إليها يمنحون إجراءاتها وأحكامها وقراراتها الشرعية القانونية التي ننشدها؟ إلى ذلك فإن للمشاركة الدولية ووجود المراقبين الدوليين، دورهما في توفير الضمان اللازم لعلنية هذه المحاكمة وإتاحتها أمام الرأي العام، ووسائل الإعلام المختلفة.
والقضية الأكثر عمقا المطروحة هنا، هي الفرضية الأساسية التي تقف عليها فكرة محكمة الجزاء الدولية: أي أن تكون محكمة الموضوع أو المحكمة الابتدائية لأي جريمة تتعلق بالقتل الجماعي والتطهير، وتلك المتصلة بانتهاك حقوق الإنسان، وكذلك الجرائم الخطيرة الناشئة عن الحروب- مثل التي ارتكبت في ظل حكم البعث- يجب أن يكون مقرها البلد الذي ارتكبت فيه تلك الجرائم. منشأ هذا الاعتقاد أو القناعة القانونية إن شئت، هو أن المحاكمة المحلية لمثل هذا النوع من الجرائم، هي الخيار الأفضل بالنسبة للاستقرار السياسي للبلد نفسه، وتضميد تلك الجراح الغائرة التي خلفها ذلك الماضي، وتهيئة المجتمع نفسيا وقانونيا لتجاوزها وإسدال ستار عليها، فضلا عن كونها الخيار الأفضل من منظور تحقيق العدالة نفسها. لكل هذه الاعتبارات مجتمعة، فليس هناك خيار أمثل من أن يتولى المجتمع محاكمة مجرميه بنفسه. بالمنطق ذاته، فقد كان ينبغي لتشيلي أن تتكفل بمحاكمة ديكتاتورها السابق أوغستو بينوشيه، وأن تتولى كمبوديا محاكمة سفاحها بول بوت، بينما تتولى رواندا محاكمة أولئك السفاحين الذين اقترفوا جرائم التطهير العرقي بحق الآلاف من المواطنين.
لهذا السبب فإن نصوص القانون الذي أنشئت بموجبه محكمة الجزاء الدولية، تنص على أن يكون بلد المدعى عليه أو المتهم بارتكاب جرائم خطيرة بحق الإنسانية، هو بلد المنشأ الذي تبدأ فيه محاكمته. ولا يجوز نقل صلاحيات المحكمة الابتدائية المحلية إلى محكمة الجزاء الدولية، إلا في حالة عجز محكمة المنشأ، أو عدم رغبة السلطات في ذلك البلد في تقديم المتهم أو المدعى عليه للمحاكمة، أو إذا ما أظهرت ميلا للتغاضي عنه.
وهناك نموذج قانوني آخر، يتولى فيه المنتصر محاكمة المهزوم المندحر. وعلى رغم التحفظات القانونية الكثيرة المثارة ضد هذا النموذج، إلا أنه أفضل على أية حال من ألا تكون هناك أية محاكمة. ثم إنه يستطيع أن يقدم خدمة قانونية كبيرة فيما إذا تم فيه تحري العدالة القانونية، على نحو ما حدث في محاكمات نورمبرج. إلا أن هذا النوع الأخير من المحاكمات يفترض-كما هو الحال في نورمبرج- أن المتهم أو المدعى عليه قد ارتكب جرائمه المنسوبة إليه ضد شعوب وبلدان أخرى في الأساس. ما حدث هناك أنه لم تجر محاكمة النازيين على جرائم الق