محاكمة تاريخية بكل معنى الكلمة تلك التي ستعقد للرئيس العراقي السابق صدام حسين. محاكمة لم يشهد التاريخ مثلها· فللمرة الأولى يمكن أن يتابع العالم كله من أقصاه إلى أقصاه محاكمة طاغية ارتكب جرائم تفوق أية قدرة على الحصر· لم يكن هذا ممكناً قبل ثورة الاتصالات الراهنة فضلاً عن أن معظم الطغاة في التاريخ حسبوا أبطالاً لأن أحداً لم يوقع بهم أو يقتلهم أو انتحروا قبل هزيمتهم·
وفي محاكمة نورمبرج الأشهر في تاريخ هذا النوع من المحاكمات لم يمثل أمام العدالة الطاغية الألماني أدولف هتلر لأنه انتحر قبل الامساك به، وهو ما لم يستطع صدام حسين أن يفعل مثله· وربما كان استسلامه هو أفضل ما فعله في حياته كي يتيح فرصة لهذه المحاكمة التاريخية التي ينبغي توفير كل ضمانات العدالة فيها وإتاحة الوقت الكافي لها حتى إذا امتدت لسنوات·
ويمكن أن تكون لمحاكمة صدام حسين فوائد متعددة أياً تكن طبيعة المحاكمة التي سيمثل أمامها· فقد كثرت الاجتهادات القانونية وتضاربت خلال الأيام الماضية بشأن طبيعة المحكمة الأكثر جدارة بمحاكمة طاغية العراق· الاجتهاد الأول والأوفر شيوعاً حتى الآن هو أن يحاكم أمام محكمة عراقية يكون القضاة وممثلو الادعاء فيها من العراقيين ويتولى الدفاع عنه محامون من العراق· وفضلاً عن ذلك كانت هناك ثلاثة اجتهادات أخرى: أولها أن يصدر مجلس الأمن قراراً بتشكيل محكمة دولية على نسق محكمتي رواندا ويوغوسلافيا السابقة·
والمنطق الذي يقوم عليه هذا الاجتهاد هو تشعب الاختصاص الدولي بخصوص جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة التي ارتكبها صدام حسين ضد شعبه وضد دولتين تتمتعان بالسيادة هما إيران والكويت· وثانيهما إنشاء محكمة مختلطة تضم قضاة عراقيين ودوليين ذوي خبرة مشهود لها وتطبق قانون الحرب والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني· أما الاجتهاد الأخير فقد ذهب إلى إمكان أن تتولى دول التحالف باعتبارها تمثل سلطة الاحتلال تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة صدام حسين باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة العراقية في حروب الخليج الثلاث منذ 1980 وحتى 2003·
فالأهم من طبيعة المحكمة هو أن تكون المحاكمة عادلة علنية وممتدة زمنياً دون حد أقصى· ولا ينبغي الالتفات، هنا، إلى مهاترات بعض أتباع صدام حسين في بلاد عربية مختلفة ممن شككوا في شرعية محاكمته بدعوى أنه ما زال الرئيس الشرعي للعراق، فيما هو ليس رئيساً إلا عليهم بحكم أنهم كانوا أقرب إلى موظفين عملوا في خدمته وأغدق لهم العطاء فضربوا عرض الحائط بكل القيم ومبادئ الأخلاق· ومما يؤسف له أن منهم رجال قانون وقضاء بدوا صغاراً يستحقون الشفقة، وهم يزعمون أنه رئيس شرعي يتمتع بحصانة رؤساء الدول فيما يتعلق بالأعمال التي قام بها أثناء توليه الحكم· وأظهر هؤلاء جهلهم بالتطور الذي بلغته قواعد القانون الدولي الإنساني على نحو يتيح تقديم أي شخص أياً يكن مركزه إذا ارتكب جريمة من جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة لجنس أو إقليم أو غير ذلك· ويمكن الإشارة، هنا على سبيل المثال، إلى مواثيق محاكم نورمبرج ومجرمي الحرب اليابانيين ووثيقة الأمم المتحدة الصادرة في الدورة التاسعة للجمعية العامة رقم 2693 لعام 1954 بخصوص الجرائم ضد أمن وسلامة الإنسانية، ووصولاً إلى وثيقة إنشاء محكمة يوغوسلافيا السابقة ومحكمة رواندا ومشروع الجرائم التي ترتكب ضد أمن وسلامة الإنسانية والذي أصدرته لجنة القانون الدولي عام 1999·
وباستثناء من برروا، وما زالوا يبررون، جرائم صدام حسين، لا يوجد خلاف على شرعية محاكمته أياً يكن نوع المحكمة التي ستتولى هذه المهمة، والمهم قبل كل شيء، هو أن تكون هذه المحاكمة عادلة كاملة ممتدة أياً يكن المدى الزمني الذي تستغرقه· وهذا ما ينبغي أن يدركه أعضاء مجلس الحكم الانتقالي في العراق والذين بدا بعضهم متعجلين إتمام محاكمته خلال أسابيع وإصدار حكم سبق عليه بالإعدام· ومن هؤلاء الأعضاء من نقدرهم ونجلهم، ومن يمتلكون القدرة على السمو فوق مشاعرهم والتحرر من نزعة الثأر التي لا نتيجة لها إلا إعادة إنتاج العنف في العراق·
وثمة فائدة كبيرة أخرى يمكن أن تترتب على محاكمة عادلة كاملة لصدام حسين، وهي وضع ما ارتكبه من جرائم وما سيقوله أنصاره دفاعاً عنه في ميزان العدالة والحق والإنسانية· وهذه فرصة فريدة لكشف حقيقة المواقف السياسية والأيديولوجية التي دفعت بعض العرب إلى التواطؤ على ذبح أشقاء لهم في العراق والكويت مناصرة لمن اعتبروه زعيم الأمة الذي يتصدى لأعدائها ويسعى إلى استعادة كرامتها·
يحتاج الرأي العام العربي إلى محاكمة عادلة كاملة لصدام حسين كي تتاح له فرصة كافية للإطلاع على ما فعله وعلى (الفكر) الذي برر، وما زال يبرر أفعاله· ستكون هذه محاكمة أيضاً لمن يرون أن من حق كل من يهاجم أميركا في خطب عنترية أن يستبيح الناس في بلده فينزل فيهم قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وتشريداً·
ستكون هذه المحاكمة ساحة لا مثيل لها لكشف حقيقة السياسات والأفكار التي قادت الأم