تكاد تكون تلك الهزة الأرضية المدمرة التي ضربت مدينة بام التاريخية الأثرية في إيران، غير مفهومة بالنسبة إلينا تماما. يذكر أن ظواهر شبيهة وهزات أرضية متفاوتة القوة والتأثير، تكرر حدوثها أكثر من مرة، في كل من أفغانستان وتركيا والهند والسلفادور، وآخرها في الجزائر. بلغ قتلى هذه الهزات الأرضية ما يربو على 60 ألف قتيل، بينما خلفت وراءها مئات الآلاف من المشردين بلا مأوى، أو أهل في بعض الأحيان. بالنسبة لإيران، فإن الهزات الأرضية ليست بالأمر الجديد عليها. ففي عام 1990 فيما نذكر، كان قد ضربها زلزال خلف وراءه 35 ألف قتيل، وما يزيد على نصف المليون من المشردين في منطقتي جيلان وزانجان.
والواقع أنه ليس على البشرية أينما كانت أن تتكبد خسائر فادحة بكل هذا الحجم والتأثير، سواء في الأرواح أو الممتلكات، من جراء الهزات الأرضية التي تحدث هنا وهناك. فعلى سبيل المقارنة، لنا أن نتأمل بهذه المناسبة ثلاث هزات أرضية كبرى ضربت ولاية كاليفورنيا مؤخرا: أولاها كانت هزة لوما بريتا في عام 1989 التي كانت قوتها 6.5 درجات، ثم هزة نورثريدج 1994و قد بلغت قوتها 6.7 درجات، وأخيرا هزة سان سيمون- باسو التي حدثت في الثاني والعشرين من ديسمبر 2003 بقوة 6.5 درجات. خلفت هذه الهزات الثلاث مجتمعة، ما يقدر بحوالى 125 قتيلا لا أكثر. ثم قس على ذلك عدد ضحايا الهزة الإيرانية الأخيرة التي ربما يصل عدد القتلى فيها إلى 40 ألف قتيل. الفارق هنا هو أن الدول الغنية قد عملت على خفض معدل الوفيات الناجمة عن الكوارث الطبيعية عموما، ومنها الهزات الأرضية على وجه الخصوص، بمعدل 90 في المئة منذ عقد خمسينيات القرن الماضي. مقابل ذلك لم يظهر مطلقا أي جهد بذلته الدول الفقيرة في مضمار خفض معدلات وفياتها الناجمة عن مثل هذه الكوارث الطبيعية.
ولما كانت هذه هي الحقيقة العارية التي تكشفها لنا الأرقام والإحصاءات، فما هو الدرس الذي يمكن تعلمه من مثل هذه المقارنات؟
صحيح أنه ليس بوسعنا تفادي حدوث الهزات الأرضية وغيرها من ثورات الطبيعة وكوارثها التي ليس لنا سلطان عليها. غير أنه في وسعنا بالطبع أن نقلل من حجم آثارها والدمار والمآسي التي تخلفها وراءها. ولا شك أننا نستطيع أن نقلل من تأثيرات ثورات الطبيعة الهوجاء بواسطة رفعنا لدرجات الاستعداد لها، وبما نتبعه من سياسات وإجراءات وقائية تستهدف الحد والتقليل من آثارها ومخاطرها. وتدخل هذه الإجراءات والتدابير الوقائية مجتمعة ضمن ما يعرف بسياسات درء الكوارث وإدارتها.
وما من سبيل آخر ممكن من الناحية العملية وقادر على إثبات ديمومته وفاعليته في مواجهة الخطر الذي تمثله الزلازل والهزات الأرضية، سوى هذه الإجراءات والتدابير الوقائية، وتبني سياسات رشيدة ومستديمة في مواجهتنا للكوارث ودرئها. ولن يتحقق لنا هذا عمليا إلا عبر تبنينا لسياسات واضحة تبدأ أولا بما يعرف بـ ( تقييم حجم الخطر) إضافة إلى حملات التوعية والتثقيف العام بحجم هذا الخطر وضرورة استعداد الناس لدرء مخاطره وتأثيراته لحظة وقوعه. ضمن هذه الإجراءات، لا بد من تعويد المواطنين وتربيتهم على ثقافة (الشفرة) التي تنذر بقرب وقوع الكارثة أو لحظة وقوعها الفعلي. على أن تكون هذه الثقافة عميقة وراسخة في وعي المواطنين، وجزء الا يتجزأ من حياتهم اليومية. كما يتطلب الأمر أيضا وضع خطط مسبقة لكيفية مواجهة الخطر ودرء آثاره عندما يكون أمرا واقعا لا مفر منه. ضمن ذلك لا بد من تدريب المهندسين المعماريين والعاملين في مجال المباني والعقارات والمجمعات السكنية والمهنية، على تكييف التصميمات الهندسية ومراحل التنفيذ العملي للمنشآت والمباني على سياسات وخطط درء كوارث الزلازل والهزات الأرضية. على أن يكون الهدف الرئيسي هنا هو تقليل عدد الضحايا بقدر الإمكان لحظة انهيار المبنى، ورفع درجة مقاومة المباني ما أمكن للهزات الأرضية.
وبحساب التكلفة نفسها، فإن تكلفة هذه الإجراءات الوقائية السابقة لوقوع الهزة الأرضية، هي أقل بما لا يقاس إلى ضحاياها من البشر والممتلكات والمنشآت، مثلما هو حادث الآن في هذه المدينة الأثرية الإيرانية العريقة، المصنفة ضمن المواقع الأثرية التابعة لهيئة اليونسكو. ففي هذه المدينة، تبلغ المباني السكنية التي لم تعد صالحة للسكن البتة، بعد الهزة الأخيرة، ما يصل إلى حوالى 90 في المئة منها. في الوقت ذاته، أشارت التقارير الأولية الواردة من المدينة، إلى أن كافة المنشآت العامة فيها قد انهارت بالكامل. وما أن يفقد مجتمع ما البنية التحتية التي تقف عليها حياته كلها، حتى يفقد القدرة تماما على إصلاح ما فقده وتعويضه. وهنا تأتي ضرورة وأهمية الدعم الدولي للتعويض عما لا يستطيعه المجتمع المحلي. صحيح أن لتدفق العون الإنساني الدولي على المدينة المنكوبة أثره في تخفيف حجم الكارثة الإنسانية التي حلت بالمواطنين في الوقت الحالي، إلا أن العون الإنساني الحقيقي المطلوب في مواجهة الكارثة، يجب أن يخطط ويوجه لصالح تعزيز سياسات درء الكوارث والخطط الوقائية ا