غداً يكمل عام 2003 آخر أيامه· وفي هذا العام تجاوز عمر انتفاضة الشعب الفلسطيني الألف يوم، ولا يوجد ما يشير إلى قرب انكسارها لا قدر الله· ورقم الألف يذكرنا بحماقة سياسي استعماري نمطي يجلس على كرسي الحكم في إسرائيل طالب حيناً بمئة يوم ليقضي على الانتفاضة· تصور أن قوته الباطشة التي يحاول توظيفها بأقصى ما يمكن من وحشية ضد شعب فلسطين سوف تنفعه فلم تفعل· جرب أن يتحدث عن تصعيد سياسي بطرد عرفات فلم يتمكن· وسع من نطاق ضرباته لتطول سوريا كي يوهم الرأي العام داخل إسرائيل وخارجها بأنها هي المسؤولة عما يسميه بالإرهاب فلم تتغير الأمور· بقيت الانتفاضة صامدة يكاد لا ينال منها شيء على الرغم من أن شارون لم يكن وحده هو الذي يكيل لها الضربات وإنما نفر إلى جواره من أبناء أمة العرب وشعب فلسطين ذهبوا إلى أن الانتفاضة قد دمرت كل شيء· وأنه قد آن الأوان لإيقافها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه· لم يسأل هؤلاء أنفسهم عن السبب في كل ما يجري ويجري وهو الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين ولم يشغلهم أن عرضاً سياسياً واحداً يعتد به لم يقدم لهم من حكومة شارون حتى يمكن لوم شعب فلسطين على أنه لا يمسك بفرصة الحل السلمي بكلتا يديه·
غير أن عام 2003 لم يكن مجرد عام آخر من أعوام صمود الانتفاضة، فقد شهد بعض مؤشرات على تحرك الأوضاع إلى الأفضل من منظور النضال الفلسطيني· صحيح أن السلطة الفلسطينية قد اضطرت إلى أن ترقص على نغمات الإصلاح الداخلي، التي تعزفها الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الدائرة في فلكهما· وصحيح أيضاً أنها -أي السلطة الفلسطينية- قد أخذت تفتش عن رئيس تلو الآخر للوزراء يفترض أن يأتي الحل معه· وكأن اضطراب أوضاع البيت الفلسطيني -الذي نعترف به جميعاً- وليس الاحتلال الإسرائيلي هو أساس المشكلة، وصحيح أن العقم الدبلوماسي قد صادف كل جهود العودة للتسوية منذ مؤتمر لندن في أول السنة وحتى مبادرة جنيف في آخرها مروراً بخريطة الطريق· لكن مؤشرات التحرك إلى وضع أفضل فلسطينياً لم يكن ممكناً أن تخطئها العين مهما قيل بحق عن فداحة الخسائر الفلسطينية في معركة البقاء·
لا يجب أولاً أن ننسى أن (حوارات الهدنة)، التي جرت بين الفصائل الفلسطينية عبر شهور طويلة من عام 2003 برعاية مصرية في الأغلب· وإن لم تؤد إلى نتيجة محددة من حيث هدفها المباشر وهو التوصل إلى هدنة تمهد الطريق للعودة إلى مفاوضات التسوية إلا أنه كان لها مضمون آخر بالغ الأهمية ذو شقين: أولهما أن الشعب الفلسطيني وإن تباعدت الرؤى أحياناً بين فصائله المقاومة ما زال يصر على تفادي الوقوع في شرك الاقتتال الأهلي· وثانيهما أن جميع قوى هذا الشعب سلطة ومقاومة باتت تعترف بأن القرار الفلسطيني لم يعد قرار فرد أو سلطة بعينها، وإنما هو قرار تشارك في صنعه كافة القوى الفلسطينية الحية· وهي بداية لا تخطئها العين لوحدة وطنية حقيقية· غير أن الأهم من ذلك أن حوار الفصائل والسلطة في فلسطين كان وما يزال يعني انقلاباً جذرياً على المفهوم اليائس لخريطة الطريق التي تصورت أن التمهيد للتسوية لا يمكن إلا أن يمر على أشلاء فصائل المقاومة المسماة في الخريطة بالإرهاب بعد أن تقوم السلطة الفلسطينية بالاجهاز عليها·
لكن المؤشر الأهم قد يتمثل فيما شهده الداخل الإسرائيلي في عام 2003· في البدء كان تمرد الطيارين الإسرائيليين الذين بلغ عددهم سبعة وعشرين طياراً أعلنوا في شجاعة رفض الاستمرار في استهداف المدنيين الفلسطينيين· وسارع غلاة المتعصبين في إسرائيل إلى المطالبة باجتثاثهم قبل أن يستفحل شرهم· وبادر غلاة المتخاذلين في الأرض العربية إلى التحذير من إعطاء الحدث دلالة أكبر من قيمته المحدودة· لكن الأسابيع القليلة اللاحقة أثبتت أننا إزاء (ظاهرة) وليس (حدثاً معزولاً) حيث وجه رئيس الأركان الإسرائيلي انتقادات غير مسبوقة ممن هو في مثل موقعه لسياسة حكومته، وتبعه نفر من رؤساء أجهزة الأمن السابقين في إسرائيل، ثم انضم ثلاثة عشر من مقاتلي دورية قيادة الأركان -أهم وحدة نخبة في الجيش الإسرائيلي- إلى حركة رفض دورية قيادة الأركان·يضاف إلى ذلك كله محاولة حزب العمل الذي كان يوماً شريكاً لشارون في سياسته الحمقاء أن يركب قطار التسوية بخطة جديدة، أخيراً مبادرة شارك فيها نفر من الساسة المعتدلين في إسرائيل مع عدد من أقرانهم في فلسطين ترجمت كما هو معروف في وثيقة جنيف·
لا ندعي بطبيعة الحال أن كل من رفض الخدمة في جيش الاحتلال أو وجه نقداً لحكومة شارون هو نصير للحقوق الفلسطينية، أو أن مبادرات التسوية الإسرائيلية الجديدة تستجيب للحد الأدنى من حقوق شعب فلسطين· ولكن ما حدث دليل بكل تأكيد على إفلاس سياسة شارون، ذلك أن المعنى الوحيد لرفض الخدمة في الجيش أو تقديم عروض جديدة للتسوية إن ما هو موجود في الساحة الإسرائيلية الرسمية حالياً عمل غير صالح ينبغي تقويمه، ومن شأن استمرار الانتفاضة وصمودها دون شك أن يوسعا من الخرق شيئاً فشيئاً حتى يتسع على الراتق·
يلي ذلك بكل تأكيد المؤشر المفاجأة الذي تمثل في نتيجة