من أبرز وأهم سمات طروحات الإصلاح في العالم العربي، ولأكثر من قرن الآن، أنها لم تتجاوز مستوى الطرح النظري. لم تتمكن كل أو أغلب، حركات، وتيارات، الإصلاح التي تعاقبت عبر الأزمان أن تترجم دعواتها وطروحاتها الإصلاحية إلى واقع ملموس في أنظمة الدول، ومؤسساتها، وسياساتها، ودساتيرها. على العكس، ظل الواقع السياسي العربي طوال أكثر من قرن، وحتى الآن يجمع بين حكومة مستبدة من ناحية، وفئة إصلاحية ضعيفة سياسيا، تقع دائما خارج دائرة الحكم. هذا إذا سمحت الحكومة لهذه الفئة بالتعبير النظري عن طروحاتها الإصلاحية. وحتى السماح لها في هذه الحالة يعطى (لا يؤخذ) ضمن حدود متعارف عليها بين الطرفين، وأي تجاوز لهذه الحدود قد تترتب عليه عواقب غير محمودة.
بل إن بعض الحكومات العربية لا تسمح حتى بالتعبير النظري عن أية مرئيات إصلاحية بتاتا· مجرد التفكير بالإصلاح في نظر هذه الحكومات ليس إلا مؤامرة لقلب النظام يعاقب عليها بالسجن والتعذيب في أحسن الأحوال·
خاصية ثانية اكتسبتها حركات الإصلاح في العالم العربي، خاصة في السعودية وسوريا، وهي خاصية التعبير عن نفسها من خلال عرائض ترفع إلى القيادة السياسية مطالبة بضرورة تطبيق مجموعة من الإصلاحات السياسية والدستورية والاقتصادية. وهي خاصية تعبر بشكل دقيق عن ضعف حركة الإصلاح. لكنها أكثر من ذلك تعبر عن المأزق النظري لهذه الحركة الذي لم تتمكن من تجاوزه حتى الآن. من ناحية ثانية تكشف هاتان الخاصيتان عن مدى هيمنة النظام السياسي وسطوته في الداخل. المفارقة أن هذه السطوة لا تعكس قوة الدولة أكثر مما تعكس ضعفها.
المفترض أن تشكل السمة النظرية لحركة الإصلاح العربية كما تعبر عن نفسها بظاهرة العرائض مصدر قبول وارتياح لفكرة المضي في برنامج الإصلاح من قبل الأنظمة العربية. لأن هذه السمة تعكس قبول المنتمين إلى حركة الإصلاح بشرعية النظام السياسي الذي يسمح لهم ولو بالحد الأدنى من العمل والحركة. أصحاب العرائض لا يتآمرون على النظام السياسي، بل يتحركون في العلن. وهم يريدون إصلاح النظام السياسي حتى يكون ممثلا لمختلف فئات الشعب، وأكثر قبولا لفكرة المعارضة، والرأي الآخر، والتعددية، والحرية بكل أشكالها. لكن لم هذا لم يشفع لهم حتى الآن؟
هذا يوصلنا إلى موضوع الحركة الإصلاحية في السعودية تحديدا. فهذه الحركة من أكثر حركات الإصلاح العربية تميزا بالسمة النظرية المشار إليها، ومن أكثرها تعبيرا عن نفسها بآلية العرائض المرفوعة للقيادة السياسية. يمتد عمر هذه الحركة لأكثر من عشر سنوات الآن، حيث بدأت انطلاقتها في أعقاب الغزو العراقي للكويت، وحرب الخليج الثانية عام 1990-1991· من الواضح الآن أن المجتمع السعودي كان ينتظر الفرصة للتعبير عن تطلعاته نحو إصلاحات سياسية واقتصادية طال زمن انتظارها. فجاء الغزو، وجاءت معه الحرب لتوفر هذه الفرصة. ومنذ ذلك التاريخ بقيت هذه النافذة مفتوحة ولو بشكل موارب مما يدل على أن ذلك الغزو، وتلك الحرب أدخلتا المنطقة إلى مرحلة تاريخية مختلفة تماما عما كانت عليه من قبل. من أهم ما كشف عنه الغزو، هو مدى ضعف دول المنطقة في الدفاع عن نفسها، الأمر الذي جعل من الإصلاح مطلبا ملحا، وهدفا لا مناص من تحقيقه قبل أن تحل كارثة أشد خطرا وأكثر تهديدا لأمن واستقرار دول المنطقة.
اتسم رد فعل الحكومة السعودية على مطالب الإصلاح آنذاك بالعنف، ربما انطلاقا من أن أصحاب تلك المطالب استغلوا فرصة الحرب لتحقيق مآرب ومطامح سياسية تخصهم هم، ولا تمثل ما يتطلبه الموقف من تضامن ورص للصفوف. ينبغي ملاحظة أن الصوت الإصلاحي الطاغي في وقتها كان صوت الصحوة الإسلامية بصيغتها السعودية. الأمر الذي ربما أثار حفيظة الحكومة لأنه بموقفه هذا كان يريد أن يترك ظلالا من الشك على الشرعية الإسلامية للدولة. وهذه ملاحظة في محلها. لكن ينبغي مواجهة حقيقة أخرى، وهي أن الحكومة مسؤولة بدورها عن ذلك، لأنها سمحت للتيارات الإسلامية، خاصة المتطرفة منها بالانتشار والاستقواء، ولأنها لم تأخذ مبادرة الإصلاح بجوانبه السياسية والاقتصادية والمالية من نفسها، من دون أن تسمح لأي طرف أن يقول لها ما يجب عليها أن تقوم به في هذا الصدد.
ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وشكلت إنطلاقة جديدة لحركة الإصلاح طغى عليها هذه المرة الصوت الليبرالي، إذا جاز التعبير. وكان استقبال الحكومة له أكثر أريحية وتقبلا إلى حد ما. طبعا لا يعني هذا أن الحكومة السعودية أصبحت أكثر تعاطفا مع التيار (الليبرالي) منها مع التيار الإسلامي. لكن هذا موضوع آخر. المهم أنه منذ ذلك التاريخ ظلت حركة الإصلاح، ومعها فكرة الإصلاح، لا تتجاوز مرحلة العرائض، التمنيات، والوعود، والتصريحات الفضفاضة. وفي خضم ذلك وصل الإرهاب بعنفه البشع إلى المجتمع السعودي، وبدأت موجة التفجيرات. وهذه أضافت عاملا ضاغطا آخر يفرض ضرورة الإصلاح. لكن فكرة الإصلاح بقيت ضمن مرحلتها النظرية، لم تتجاوزها كثيرا. وظلت الحكومة تتعامل معها بلين، لكن بحذر واضح. كان المفترض