وجد بعض العرب والمسلمين ما يحيرهم في الاعتراض الأميركي على التوصية الفرنسية بمنع الحجاب في المدارس، والتي وجدت تزكيتها في رئيس الجمهورية شيراك شخصياً· والحق أن الاعتراض المذكور تعدى صحفاً أساسية تقع في المتن العريض للإعلام كـ(نيويورك تايمز) إلى وزارة الخارجية نفسها· كذلك تعدى النقد الجدي والرصين إلى السخرية المرة عند بعض الكتاب الأميركان حيال ما اعتبروه ميل الفرنسيين إلى خوض معارك وهمية، وإلى نزعة (الأصولية العلمانية) المتمكنة منهم·
على أن الحيرة العربية والمسلمة بدت، والحال هذه، مزدوجة: فكيف تقف الولايات المتحدة (معنا) في الحجاب دون قضية الشرق الأوسط؟ وكيف، في المقابل، تقف فرنسا (ضدنا) في الحجاب دون قضية الشرق الأوسط إياها؟
والراهن أن بعض الخلافات الأساسية التي تميز السلوكين الغربيين ترقى إلى التكوين السياسي للتجربتين الأميركية والفرنسية· فمنذ الاستقلال الأميركي والدستور الذي وضعه (الآباء المؤسسون)، تم النظر إلى الحريات الدينية والمعتقدية بوصفها المحك الأول للخيار والكرامة الإنسانيين· وهكذا غدا التدين شرطاً من شروط النجاح في العمل العام، من رئاسة الجمهورية نزولاً، من دون أن يكون للتدين هذا انعكاس مباشر على التسيير الزمني للدولة وشؤونها· وهذا المحدد، الذي انزرع عميقاً في تربة الثقافة السياسية الأميركية، هو ما لا نزال نلحظه في الانتقادات التي تصدر عن واشنطن لهذه الدولة أو تلك، والتي يتصدرها الموقف من الحريات والممارسات الدينية· فحتى حين تنتهك حريات كهذه لأكثر الأقليات صغراً ومجهرية، تتعامل الولايات المتحدة مع سلوك من هذا النوع بوصفه سلوكاً قمعياً واستبدادياً يتعذر تبريره أو الدفاع عنه·
ومن المنطلق نفسه بدت واشنطن متحمسة لمحاورة الأصوليين الجزائريين إبان الحرب الأهلية التي لم تتوقف في بلدهم إلا مؤخراً· أما باريس فوقفت، في معظم مراحل تلك الحرب، بعناد وصرامة مع الجيش الجزائري في حربه المذكورة· كذلك بقيت الأولى أشد انفتاحاً من الثانية حيال التجربة التركية بقيادة (حزب العدالة والتنمية) الإسلامي، وتوالي الجهود لإقناع الاتحاد الأوروبي بضم تركيا إلى صفوفه· لا بل ثمة بين المحللين الغربيين من يرى في التحالفات التي عقدتها الولايات المتحدة، أثناء الحرب الباردة، مع قوى إسلامية كثيرة بعداً ثقافياً وروحياً يُضاف إلى عداء الطرفين للشيوعية (الملحدة) ويغذيه·
وهذه نظرة تغاير تماماً تجربة فرنسا الحديثة التي ولدت من رحم ثورة تصدت لامتيازات رجال الدين وطبقة النبلاء، وتعرضت ثقافتها لتأثيرات إلحادية ولا أدرية قوية يضرب جذرها في التنوير· وربما ذهبت فرنسا أبعد مما ذهبت إليه أية دولة غربية أخرى حين قضت، في مطالع القرن العشرين، بفرض العلمنة الشاملة للحيز العام والفصل الكامل بين الكنيسة والدولة، جاعلة من المدرسة أهم بوتقات الانصهار الوطني للفرنسيين·
وهكذا يصعب على باريس اعتماد سياسة (عدم التدخل) (على الطريقة البريطانية) حيال الجماعات والقيم التي تحتك بها، دع جانباً التي تقيم فوق أرضها وتنخرط في نسيجها الوطني والمجتمعي·
لكننا حين نصل إلى النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي نجد الأمور تختلف إلى أبعد الحدود· ففرنسا تحظى بمواصفات أربع تجعلها، حين تؤخذ معاً، فريدة في قارتها الأوروبية· لكنها تجعلها أيضاً، وهذا هو الأهم في مجالنا هذا، ذات مصلحة مباشرة، بل داخلية، في التوصل إلى تسوية معقولة وعادلة لنزاع الشرق الأوسط·
فجغرافياً، هي قريبة جداً من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، أي بلدان المغرب العربي في شمال أفريقيا· وهذا يعني أن المهاجر من هذه البلدان، حتى لو وضعنا الاعتبارات التاريخية جانباً، سيفكر بالهجرة إليها أول ما يفكر· فكيف وقد سبقته إليها عائلات ومعارف مهدوا السبيل لهجرته أو لرغبته فيها·
وتاريخياً، ارتبطت فرنسا بعلاقة حادة مع الإسلام والوطنية الجزائريين، كما لا تني تذكرنا المواجهة الدموية المتصلة والمديدة، لا سيما ما بين 1954 و1961· لكنها ارتبطت أيضاً بعلاقة لا تقل حدة مع اليهود (ومع إسرائيل جزئياً واستطراداً)، بفعل تاريخ اللاسامية الفرنسية، أكان إبان قضية درايفوس، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، أم مع قيام حكومة فيشي في الحرب العالمية الثانية·
وديموغرافياً، تعيش في فرنسا جالية مسلمة ضخمة جداً هي الأكبر في أوروبا (5 ملايين على الأقل) يميل شبانها على نحو متزايد إلى التماهي مع الشبان الفلسطينيين، فيما تعيش فيها، كذلك، ثالث جالية يهودية في العالم، بعد الولايات المتحدة وإسرائيل (650 ألفاً) ممن يتجه شبانها وعناصرها الفاعلة إلى التماثل مع اسرائيل·
وسياسياً، تمثل فرنسا، منذ الجنرال شارل ديغول، في الخمسينيات والستينيات، وصولاً إلى الخلافات الحالية حول العراق، البلد (الاستثناء) في معارضته للولايات المتحدة· وإذا صح أن معارضة كهذه تتأسس، بين عوامل أخرى، على مقدمات ثقافية وأخرى أوروبية، إلا أن خصوصيتها وحدتها الحاليتين تبرزان في الشرق الأوسط أساسا