بين فترة وأخرى وبضغوط من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا تعقد الأطراف المعنية بالصراع -الحكومة والجبهات المتعددة التي تعاديها- اجتماعات ومفاوضات للتوصل إلى صيغة يتم من خلالها تحقيق السلام في السودان، ومعظم هذه الاجتماعات تعقد في كينيا·
وبالرغم من ذلك إلا أن الحرب الأهلية الحالية لا زالت مستمرة منذ أن بدأت قبل عشرين عاماً، وضحاياها بين قتلى ومصابين ومشردين يعدون بالملايين· وتشير المصادر الغربية إلى أن سبب المشكلة هو محاولات التعريب والأسلمة التي يحاول الشمال فرضها على الجنوب الذي تقطنه قبائل أفريقية إما أنها تعتنق المسيحية كدين أو أنها وثنية وتمارس عادات وتقاليد محلية خاصة بها·
إن هذا الطرح تسطيح للأمور يميل إلى أن يكون دعاية سياسية أكثر من كونه يهدف إلى سبر غور المشكلة لمعرفة أسبابها الحقيقية الكامنة رغبة في تقديم حلول عملية لها· فالسودان، بلد المليون ميل مربع الذي تشح فيه الموارد المعدنية الطبيعية القابلة للاستثمار الاقتصادي المجدي -باستثناء النفط الذي تم اكتشافه قبل سنوات قليلة، والذي لم يخضع للاستغلال الكامل بعد بسبب تعقيدات الحرب- هو نسخة أصلية بالنسبة لمشكلاته، مطابقة تماماً لما يدور في أقطار العالم النامي· فالتنمية فيه لا زالت قاصرة، ويواجه النظام السياسي صعوبات في الاستقرار ومشكلات التفكك العرقي والديني، ومشكلات اجتماعية -اقتصادية هائلة·
ومن الجدير بالملاحظة أن اكتشاف النفط في الجنوب قبل سنوات خلت ساعد كثيراً في استمرار الحرب الأهلية، فالجنوبيون غير راضين عن سيطرة الحكومة على حقول النفط ويعتقدون أنها لن تستخدمه في صالح تنمية مناطقهم بل إن ريعه سيذهب إلى العاصمة الخرطوم وبقية المناطق الشمالية· والحكومة المركزية ترى أن ما يفعله المسلحون هو ضرب من العصيان والتمرد الذي يتوجب القضاء عليه، وتقول إن عوائد النفط ستستخدم في صالح فئات الشعب السوداني دون استثناء، لذلك فإن عليها واجب القضاء على التمرد بأي ثمن· وفي سبيل تحقيق أهدافها واستراتيجيتها البعيدة المدى قامت بالسيطرة الكاملة على مناطق إنتاج النفط، وأجلت القبائل القاطنة في تلك المناطق، وزادت من تواجدها العسكري، وتشن بين الفينة والأخرى هجمات على معاقل المتمردين والمدن التي يسيطرون عليها مستخدمة في ذلك كل الإمكانيات المتاحة لديها· إن جميع تلك الإجراءات تزيد من حفيظة الجنوبيين وتجعلهم أكثر إصراراً على التمرد·
وإذا ما استمرت الأمور في التطور على المنوال نفسه فإن مصير كل الاجتماعات والجلسات والمفاوضات ستؤول إلى فشل وتبقى عملية السلام متوقفة· إن المشكلة تحتاج إلى اتخاذ إجراءات عملية أكثر ديناميكية تصب في صالح حل الخلافات من أساسها، وليس الجلوس إلى طاولات مفاوضات تطيب فيها الخواطر ثم يذهب بعد ذلك كل في سبيله لكي يمارس ما كان يمارسه من قبل· وفي تقديري فإن الجولات التي عقدت خلال العامين الماضيين في كينيا وغيرها لم تحدث نتيجة لاقتناع الأطراف المتحاربة في عقدها وإنما بضغط شديد من الولايات المتحدة·
إن المطلوب من الأطراف السودانية ذاتها البحث عن حلول عملية لمشكلاتها بعد أن تكون قد اقتنعت اقتناعاً تاماً بأنه لا سبيل إلى حسم الموقف إلا بالتفاوض والحلول السلمية· وفي هذا السياق يستطيع الطرفان الاتفاق على النقاط التي يجب تضمينها جدول المفاوضات· وأول ما هو مطلوب منهم هو عقد مؤتمر دستوري، ثم مفاوضات يكون كل منهم مقتنعاً بها، وأن يتكاشفوا ويتصارحوا دون مواربة حول القضايا الأساسية والمهمة·
وأهم تلك القضايا هي تقاسم السلطة والموارد القومية ونظام الحكم الذي يجب أن يسود البلاد، والعلاقة بين الدين والدولة وخاصة دور الشريعة في المجتمع، وتعريف ماهية الهوية الوطنية وخاصة فيما يتعلق بذلك من عروبة وإفريقية وإسلام ومسيحية، ومعتقدات وعادات البشر من خارج الديانتين السماويتين، ومبادئ السياسة الخارجية، وخاصة فيما يتعلق بتأثير الارتباطات الخارجية على العناصر المختلفة في داخل السودان· وعلى رغم أن الهوية تصنف بأنها قضية منفصلة إلا أنها في الواقع السوداني الحالي تتقاطع مع جميع القضايا الأخرى وتدخل في صميم البعض منها، لذلك فإنها قضية مركزية يتوجب على السودانيين حل إشكاليتها منذ البداية لكي لا تصبح لغماً ينفجر في وجوههم فيما بعد·
كلمة أخيرة هي أن هناك قلقاً شديداً على مستقبل السودان كقطر متماسك، وتوجد أطراف داخلية وخارجية لها مصالح في تفتيته، لذلك فإن على أبنائه شماليين وجنوبيين أن يفوتوا تلك الفرصة على من يريد السوء ببلادهم·