هل بقي هناك ما يقال الآن عن الرئيس الأميركي فرانكلين ديلانو روزفلت، بعد مضي 60 سنة تقريباً على وفاته وبعد أن أسالت سيرته حبراً كثيراً خطّ ملايين كثيرة من الكلمات على صفحات الكثير من الكتب عنه وعن سيرة حياته؟. يقول (روبرت .س.ماك إلفين) أستاذ التاريخ في كلية (ميلسابس) الأميركية:أجل، هناك ما يقال، على الأقل في رأي بعض الكتّاب والناشرين. فقد شهدت السنة الماضية صدور كتب عديدة عن حياة الرئيس الأميركي الذي تفوّق على كل الرؤساء الأميركيين في طول فترة خدمته للأمة الأميركية (1933-1945). وقد كان من بين تلك الكتب كتابان من تأليف اثنين من الكتّاب المصنفين في خانة (المحافظين)غير أن تقييماتهما ما كانت لتختلف كثيراً عن تقييمات الآخرين.
وفي سبتمبر الماضي، رأى القراء كتاباً لـ (جيم باول) بعنوان (حماقة فرانكلين ديلانو روزفلت: كيف قام روزفلت وإصلاحاته السياسية بإطالة فترة الكساد الأكبر)· وقد أحيا هذا الكتاب الحجج التي تمسك بها الكثير من رجال الأعمال والاقتصاديين المحافظين الذين رأوا أن تلك الإصلاحات مسؤولة عن تحويل مجرد انكماش مؤقت إلى كساد دام عقداً من السنين وأدى إلى فرض القيود الحكومية على الحريات في أميركا. ويقول (ماك إلفين) في معرض حديثه عن الكتاب إنه مادة ستلقى رواجاً كبيراً بين أوساط المحافظين، بسبب الدعاية المبالغ فيها، لكن المؤرخ (ديفيد لاندز) يرى أن من الأصح قول ذلك عن كتاب (كونراد بلاك) الجديد، الذي نعرض له هنا، والذي يسرد سيرة حياة (روزفلت) الديمقراطي، باعتباره عملاً ضخماً ومن الوزن الثقيل.
أما المؤلف (كونراد بلاك) فهو شخصية ربما لم يسمع الكثيرون بها، إذ استقال مؤخراً تحت الضغط من منصبه كمدير تنفيذي لشركة (هولينغر إنترناشيونال) الإمبراطورية الإعلامية العملاقة، وهو (محافظ مخلص) من الجناح اليميني، لا يأتي قبله في عالم الإعلام والنشر إلاّ (روبرت مردوخ)-حيث تمتلك (هولينغر) مئات الصحف والمجلات في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا (منها (سبيكتيتور)، (ديلي تلغراف)، (شيكاغو صن تايمز))، وهو أيضاً عضو في (مركز نيكسون) وفي المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وفي المجلس المعني بالعلاقات الخارجية وعضو في مجلس اللوردات البريطاني وتربطه علاقات وثيقة مع تيار المحافظين الجدد.
غير أن (بلاك)، في هذا الكتاب على الأقل، يفهم أن (روزفلت) الديمقراطي قد حافظ على الرأسمالية بإنقاذها من الرأسماليين، إذ أنها كما يقول (بلاك) (ما بقيت تهدد نفسها، بل أصبحت محركاً واضحاً لازدهار قومي أكبر وأحسن توزيعاً)·
ويعترف مؤلف الكتاب بأن (روزفلت) كان شخصية أقل أحقية بالإعجاب مما ظن المعجبون به، لكنه (كان كرجل دولة أعظم مما أدركه مؤيدوه الأكثر صراحة، وذلك بسبب تطبيقه العملي لعبقريته السياسية غير الأخلاقية التي حققت غايات مرغوبة تماماً)·
لكن المؤلف لا يتورع هنا عن الاسترسال في سرد نقائص وعيوب (روزفلت) الكثيرة، ويقول إن ذلك الرئيس (لم يكن مؤهلاً للاعتراف بالخطأ) وإنه كان (منافقاً ازدواجياً.. ومراوغاً)·
ومن أقوى الانطباعات التي يخرج بها القارئ من الكتاب أن (رونالد ريغان) حمل الكثير من خصال (روزفلت) القبيحة، إذ كان كل منهما رئيساً مولعاً كل الولع باختلاق القصص وتصديق ما يجده فيها مفيداً لنفسه أو ما يجد فيه مبرراً لتصديقه. وفي حين أن (ريغان) كان ينسى ويخلط ما بين الواقع ومشاهد السينما، كان (روزفلت) معروفاً بفبركة القصص التي كما يقولون (ينبغي أن تكون حقيقية)·
وكشأن الكتب الأخرى التي حكت سيرة حياة (روزفلت)، يرى (بلاك) أن إصابة (روزفلت) بشلل الأطفال وهو في عامه التاسع والثلاثين كان لها تأثير إيجابي في هذا الرجل، إذ أن إعاقته (أخفت وراءها الخصال الأنانية التي كان من شأنها أن تجعله، من الناحية السياسية، أكثر عرضة للهجوم والسقوط)·
ويبرع المؤلف أيضاً في تصوير الشخصيات الرئيسية في حياة (روزفلت) بأسلوبه المميز الآسر، حيث يصف مثلاً سكرتير (روزفلت) الشخصي (لويس ماك هنري) بأنه (شخص ساخر متشائم بغيض يذرع المكان جيئة وذهاباً في جو خانق تمازج فيه دخان السيجار مع رائحة الويسكي...شخص أشبه بالقرد، ضئيل الجثة محدودب مطأطئ الرأس وغائر الكتفين كبير الأذنين واسع العينين، وذو أنف انتفخ مثل بصلة، قميء الهيئة ذو سحنة سيئة)· بعدئذ يقول المؤلف في وصف (تيودور روزفلت)(1858-1919) عبارة من كلمات قليلة حملت كل البلاغة والتعبير: (لم يكن أبداً رجلاً يتحفظ في قول كل مقتضيات الحقيقة؛) ثم يقول في وصف ابنته (آليس): (·· بقي لها حتى آخر أيام حياتها لسان حاد قادر على قطع سياج)·
ويرى المؤلف أن (روزفلت) كان بلا منازع أهم شخص في القرن العشرين، وربما لا ينافسه في هذا سوى المهاتما غاندي، وهو الأقدر على فهم ما رآه المؤلف (كونراد) في شخصية (روزفلت)، إذ قال صاحب سياسة اللاعنف: (إن القوة لا تأتي من المقدرة الجسدية، بل من الإرادة التي لا تُقهر)·
ولعل جوهر الرسالة التي يطلقها (كونراد) في كتابه هذا يتلخص في أن المفارق