عدت من رحلة إلى المغرب حيث عقدت بمدينة الرباط في مقر الأكاديمية المغربية ندوة عالمية موضوعها (حوار الثقافات هل هو ممكن؟) وقد شارك في هذه الندوة مجموعة مختارة من أبرز المثقفين الغربيين والعرب، الذين يمثلون عديداً من الاتجاهات الفكرية· وقد عرضت في هذه الندوة بحثا لي عنوانه: (الحوار الحضاري العالمي: رؤية ثقافية عربية) حاولت فيه أن أقدم نظرية واضحة عن الأسئلة التي يطرحها الحوار وشروط تنفيذه وكيفية إدارته، والمعايير التي يمكن على أساسها اختيار المشكلات التي سيدور حولها الحوار·
وقد ركزت في عرضي على أنه ليس هناك حوار حقيقي للثقافات إذا لم يقم على أساس النقد المزدوج وأعني بذلك على وجه التحديد نقد الذات وتفكيك خطاب الآخر·
والواقع أن ممارسة النقد الذاتي - كما أكدت من قبل أكثر من مرة - ليست فضيلة عربية، ولكنها فضيلة غربية أساساً! بحيث يمكن القول إن أحد أسباب التقدم الغربي هو الممارسة المنهجية للنقد الذاتي في المجتمعات الغربية· وهذا النقد الذاتي يقوم به في بعض الأحيان أعضاء النخب السياسية الحاكمة إذا قصروا أو أخطأوا في عملية صنع القرار، وكذلك حال المثقفين والكتاب والمفكرين، الذين يراجعون مواقفهم السياسية وفقا للأحداث الكبرى العالمية والإقليمية والمحلية، أو إذا ما اتجهوا إلى تغيير وجهة مشروعاتهم الفكرية، نتيجة للتطور الذاتي للمثقف، أو كانعكاس لتغيرات الظروف المحيطة به·
ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى استقالة عديد من السياسيين والمثقفين واليساريين من الأحزاب الشيوعية الأوروبية عقب الغزو السوفييتي للمجر عام 1956، بعد أن أدركوا أن الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى، يتصرف في الواقع وكأنه قوة إمبريالية استبدادية غاشمة، ويعتدي بذلك على حرية الشعوب· وقد اندفع بعض هؤلاء من بعد إلى مراجعة موقفهم الفكري من الماركسية ذاتها، وقاموا بإجراء مراجعات متعددة، سواء من زاوية هجرها أصلا كنظرية أو منهج، أو محاولة تعديل بعض مقولاتها·
ويمكن القول إن (الشيوعية الأوروبية) التي صيغت لتتناسب مع قرار عدد من الأحزاب الشيوعية الأوروبية لكي تدخل اللعبة الديمقراطية كما تمارس من خلال الانتخابات الدورية في عديد من البلاد الغربية، تعد تطبيقاً خلاقاً لممارسة النقد الذاتي، وإن كانت هذه الحركة قد صعدت وهبطت من بعد نتيجة أسباب متعددة·
وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى نموذجين بارزين لمفكرين كبار مارسوا النقد الذاتي، وإن كان في اتجاهات متعارضة· المثل الأول هو الفيلسوف الفرنسي الشهير لويس التوسير الذي برز في أواخر الستينيات بمجموعة كتب أشرف على تحريرها مثل كتابه (من أجل ماركس) وغيرها· وكان مشروعه يقوم أساساً على تجديد الماركسية، وأحدث هذا المشروع دويا عالميا، وأصبحت لأفكاره تطبيقات متعددة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد بل أيضاً في الأدب والفن·
غير أن لويس التوسير أحس في لحظة ما بفشل مشروعه، ولم يتوان عن ممارسة النقد الذاتي، وذلك في مؤتمر شهير نظمته الشيوعية الإيطالية روسانا روساندي والتي كانت قد استقالت من الحزب الشيوعي الإيطالي احتجاجا على جموده الفكري· وكان عنوان المؤتمر: (الماركسية في المجتمعات ما بعد الثورية)· وشارك لويس التوسير في المؤتمر ببحث صغير موجز وإن كانت له دلالات متعددة· وقال فيه منتقداً نفسه واتباعه: (كنا نبحث عن جوهر خالص للنظرية الماركسية، غير أننا أدركنا أخيرا أنه ليس هناك جوهر خالص لأي نظرية)! بعبارة أخرى أن الحفر في التربة حتى الجذور للوصول إلى النظرية - أي نظرية - في حالتها الأولى النقية المبرأة من الشوائب وهم باطل ماله من أساس! أما النموذج البارز الثاني للمفكر الذي مارس النقد الذاتي بشجاعة منقطعة النظير فهو روجيه جارودي الذي كان منظراً للحزب الشيوعي الفرنسي في مرحلته الستالينية، غير أنه استقال من الحزب وتحول إلى المسيحية مبشرا بقيمها السامية، ثم فاجأ الجميع وتحول إلى الإسلام وسمى نفسه رجاء جارودي فأصبح لإسلامه دوي كبير في البلاد العربية والإسلامية، وكأن جارودي، أعزّ الإسلام بإعلانه تحوله لكي يكون مسلماً!
وإن كانت هذه الحالة بالذات تمثل نموذجاً بارزاً على التذبذب الإيديولوجي، والاهتزاز الشديد للمشروع الفكري لهذا الفيلسوف المتقلب!
وإذا كانت ممارسة النقد الذاتي بدأت تمارس بشكل إيجابي في العالم العربي، وخصوصاً بعد هزيمة يونيو 1967، وأقدمت عليها الحركات الإسلامية والماركسية والقومية في كتب منشورة لعل أهمها الكتاب الذي أشرف على تحريره العالم السياسي الكويتي عبد الله النفيسي (الحركة الإسلامية: أوراق في النقد الذاتي) والكتاب الذي حرره كريم مروة (حوارات) ويتضمن نقداً ذاتياً ماركسياً، وكتب أخرى متعددة تحمل نقداً ذاتياً مارسه أنصار التيار القومي، فلا بأس أن نواصل المسيرة ونمارس نقداً ذاتياً من زاوية النقد الجذري لبعض الممارسات الكتابية والصحفية التي نشرت مؤخراً·
وأبرز هذه الممارسات التي أثارت ضجة ما نشر بشأن عرض (مكتبة الإسكندرية) للكتاب الشهير سيئ السمعة (بروتوكول