(وطن حُر.. وشعب سعيد).. بهذه اللافتة استقبل العراقيون نبأ اعتقال رئيسهم السابق صدام حسين.
ولسنا هنا في موقف الشماتة لما حصل كوننا نختلف كثيرا مع الطروحات والأفعال التي مارسها النظام العراقي خلال عقود ثلاثة، لكننا نعتقد أن ما حصل لصدام يمكن أن يحدث لطغاة آخرين مارسوا اللعبة نفسها، وأمعنوا في ذات الهوى الذي خالف أعراف الإنسانية وحقوق الشعوب.
بعد خروج صدام من آخر القصور في أبريل الماضي أيقن تماماً أنه في رحلة لا عودة منها.. ومن سخريات القدر أن يخرج من الحفرة في المكان نفسه الذي (عَبَر) منه في الستينيات إلى الحرية، لكنه هذه المرة يعبُر إلى اتجاه آخر· ولعل يوم السبت 13/12/2003 هو اليوم الحقيقي لسقوط التمثال الأكبر، إذ ظل العراقيون، حتى بعد احتلال بلادهم وتشرذم النظام، يخافون من عودة صدام.
لقد زال بهرجُ القصور وصخبها، وتوارت زجاجات الشمبانيا والسيجار الهافاني الفاخر.. وخلت بغداد من (عبدة) الجبروت.. وتجار الكلمة الذين ينظمون القصائد العصماء والمقالات (المسبّحة) بحمد صدام· توارى الحرس الجمهوري، ورجال الاستخبارات، وهوى الصولجان والرشاش الذي ما كان يفارقه، وهو السلاح الذي قسَّم به الشعب العراقي وعزز قبيلته تكريت بصورة مؤسفة.
ولقد وُجد صدام بخيلاً على نفسه برصاصة يطلقها من أجل كرامته أو كرامة الكرسي، ووجدناه بلحية كثيفة وشعر أغبر أشعث يخرج من جُحر صغير بلا موكب أو حارس أو بدلة عسكرية كاكية دأبَ على ترويع الشعب العراقي بها·
إن الطغاة - للأسف - يعيشون طويلاً لكنهم يسقطون في النهاية، وسقوط نظام كالنظام العراقي المُدجج بالقوة وعدد الحراس وقوة الاستخبارات، يجعل المجال مفتوحاً للأنظمة المماثلة وإن اختلفت الجغرافيا، وقَدَرُ صدام يمكن أن يحوم حول كل الطغاة الذين يعاملون شعوبهم كـ(أُجراء) أو (صبيان) يُلقون لهم بالفتات، وبودهم لو قننوا لهم الهواء الذي يستنشقونه وطالبوهم بفواتير خاصة بالأوكسجين·
الأنظمة التي شاهدت (نهاية رجل عظيم) لابد لها من أخذ الدروس، والأنظمة التي لا تلتفت إلى شعوبها عليها أن تدرك أن قوة الحرس والاستخبارات ليست هي مقياس حب الجماهير أو السياج الواقي من انقلاب الكرسي وتصدّع القصور·
إن الشعوب تنسى مصائبها مع الأيام، لكن الطغاة، وإن محاهم التاريخ والجغرافيا، وصداقات الأصدقاء الكبار، فإن عمليات مماثلة لـ(الفجر الأحمر) ستكون بانتظارهم وعليهم استيعاب الدرس العراقي والجلوس إلى طاولة الحوار مع شعوبهم وتسريح طوابير الاستخبارات والمُحققين الذين يخرجون ليلاً لترويع الغرف الآمنة.
بعد سقوط صدام يحق للشعوب أن تدخل القصور وتتحدث مع حكامها.. أو يأتيها الحكام إلى (حصيرتها) ويتفق الجميع على شكل الحكم ومخرجاته.
بعد سقوط صدام، والذي راهن كثيرون على تخليده أو خلوده، تُضاءُ قناديل جديدة ليس في العراق فحسب، بل في كل المدن الموبوءة بالجبروت، والمسكونة بالخوف· لقد كُتب على العديد من شعوب العالم الخوف، بدءا من يوغسلافيا السابقة وحتى الفلبين، ومن بينوشيه وحتى نورييجا، رجوعا إلى الحجاج بن يوسف وغيره من الطغاة.
واليوم يُكتب دور جديد للولايات المتحدة في العالم، ولابد لنا من الاعتراف بذلك، فالشعوب العربية تخاف جداً ولابد أن تتحرك من الخارج، إذ لولا الولايات المتحدة لظلت التماثيل تغتصب بغداد، وظل التمثال الأخير يمارس مسرحيته على الشعب العربي· وظل الجميع - يعانون (فوبيا) صدام.
نقول: إن دورا جديدا قد كُتب للولايات المتحدة ويتمثل في القضاء أو المساعدة في القضاء على كل الذين يحكمون شعوبهم بالنار، ولا (يُطِلون) خارج نوافذ قصورهم ليروا مآسي شعوبهم.
لقد دأبت الولايات المتحدة منذ أكثر من سبعين عاما على التلاعب بالألفاظ وتغيير الأقنعة في تعاملها مع العديد من الأنظمة الديكتاتورية، وحمت طغاة كثيرين أمثال صدام، ولم تلتفت إلى حق الشعوب كما تفعل داخل حدودها· واليوم يجب على هذه الدولة العظمى الكيل بذات المكيال العراقي نحو الشعوب المظلومة والحكام المستبدين، وحريٌ بها أن تقتلع ارهاب السلطة من داخل القصور حتى لا تُضطر إلى انتشاله من غياهب الجحور.