ماذا؟ الأرض مقابل السلام؟ هذه عبارة تطرق الأسماع على الدوام في الشرق الأوسط. وفي هذه الأيام، يبدو أن لدى الحكومة الإسرائيلية نية واستعداداً للتخلي عن جزء كبير من قطاع غزّة وعن جزء من الضفة الغربية-لكنها لا تنوي إعادة أي جزء من مرتفعات الجولان السورية.
وإذا كانت الحال كذلك، فإن سوريا ستبقى العدو الأول لإسرائيل. ففي الزيارة التي قمت بها إلى العاصمة السورية دمشق في الأسبوع الماضي، تحدثت إلى كثير من السوريين، وقد قال لي كل واحد منهم بأعلى صوته إن إعادة مرتفعات الجولان، التي بقيت تحت السيطرة السورية حتى حرب يونيو عام 1967 ، تبقى عنصراً غير قابل للتفاوض والمناقشة في أية تسوية مع إسرائيل.
ومن الطبيعي أن تكون عبارة (غير قابل للتفاوض) مقدمة سيئة للمفاوضات، غير أن إسرائيل في الوقت ذاته تبدو غير مهتمة بالتخلي عن مرتفعات الجولان، فعلى رغم كل شيء، وبعد كل ما حدث، ما زال الإسرائيليون يتذكرون بمرارة وابل القذائف الشديد الذي صبته على إسرائيل قبل عام 1967 تلك المدافع السورية التي كانت رابضة فوق تلك المرتفعات التي تشكل الآن حضوراً مهيمناً يطل على السهول المنبسطة المحيطة ببحيرة طبرية.
وهكذا ربما يكون من غير المرجح أن يتم التوصل إلى أي اتفاق بين سوريا وإسرائيل يكون مرهوناً بمبدأ الأرض مقابل السلام. وإذا كان الإسرائيليون قانعين وراضين بذلك الوضع الراهن، وإذا كان السوريون ساخطين مستاءين منه، فربما ينبغي علينا عندئذ أن نستعين بكلمة من قاموس الدبلوماسية، وأعني بها كلمة )revanchis (التي تعني الحنين القومي إلى استعادة السيطرة على الأراضي المفقودة أو المحتلة.
وقد أتت هذه الكلمة بالاشتقاق من كلمة فرنسية تعني (الانتقام). ولاشتقاق هذه الكلمة بالذات حكاية تقول إن فرنسا خسرت مقاطعتي الألزاس واللورين عندما احتلتهما ألمانيا في الحرب بين عام 1870 وعام 1871، وبعدئذ أصبحت استعادة هاتين المقاطعتين تشكل مركز اهتمام السياسة الخارجية الفرنسية. وهكذا تمت في عام 1882 صياغة مصطلح (استعادة الدولة لسيادتها على أراضيها المفقودة) أو المحتلة.
وفي أواخر القرن الـ19، أطلق الفرنسيون، في سياق السعي إلى استعادة الألزاس واللورين، خطتين إحداهما ذكية والأخرى غبية. أما الخطة الغبية فهي استراتيجيتهم العسكرية التي تستند إلى أيديولوجيا الانتقامية ولا شيء سوى ذلك.
في عام 1914، أي في حربهم التالية مع الألمان، شن الفرنسيون ببساطة هجوماً حماسياً أرعن اخترقوا به تحصينات العدو الألماني في الألزاس واللورين. وفي نهاية المطاف اكتشف الفرنسيون أن الحماسة الانتقامية لا تضارع الأسلاك الشائكة ولا المدافع الرشاشة. وفي غضون ذلك، قامت القوات الألمانية بالالتفاف حول الفرنسيين وطوقتهم إلى جهة الغرب وأوشكت أن تستولي على باريس. وفي الأشهر الأربعة الأولى من الحرب العالمية الثانية، تكبدت فرنسا خسائر في الأرواح بلغت 850 ألف قتيل.
ومن حسن حظ الفرنسيين أن خطتهم الثانية (الذكية) قد تم وضعها بروية وعقلانية باردة، في مقابل الحماسة الحامية المتهورة. وقد اقتضت الاستراتيجية الثانية بناء تحالفات من شأنها أن تطوّق الألمان وتخنقهم.
وهكذا تحالفت فرنسا مع عدوتها التاريخية بريطانيا، وهي عداوة أشعلت بينهما نار الحرب على مدى قرون من الزمان، وجعلت ألمانيا عدواً حديثاً لفرنسا قياساً إلى ذلك. وقد أرست فرنسا أيضاً تحالفاً مع عدوتها الأخرى روسيا. وبالطبع تمكنت فرنسا وبريطانيا معاً من إغراء الولايات المتحدة وجرّها إلى معمعة الحرب.
ومن المعلوم أن ذلك التحالف الهائل قد هيمن وتمت له السيطرة في عام 1918، فاستعادت فرنسا أرضها المحتلة. ويعني ذلك بكلمات أخرى أن المناورة السياسية قد حققت للفرنسيين ما لم تحققه لهم المناورة العسكرية.
فأين هم السوريون الآن في هذا؟ هل يتبعون السياسة الانتقامية الساعية إلى استرداد أراضيهم المفقودة؟ فلنسمع رأي (كولين إسبينوزا) التي عملت في السابق في وظيفة طيار لدى سلاح الجو الأميركي، وقد كانت أيضاً في زيارة إلى سوريا. تستبعد (كولين) إمكانية تحقيق السوريين للنجاح في أي عمل عسكري محتمل ضد إسرائيل، وتقول: (إن طائرات(السوريين) لن تتمكن أبداً من التحليق في الأجواء)· ومن دون القوة الجوية الحاضرة، بحسب رأي (كولين)، لن تدوم القوة البرّية السورية طويلاً. وهنا يعترف عماد فوزي الشعيبي المحلل السياسي والأستاذ في جامعة دمشق، بالضعف العسكري الذي تعاني منه بلاده سوريا. بعدئذ رفع الشعيبي بيده دافعاً قبضته في الهواء بحركة مفاجئة وقال متسائلاً: (فماذا سنفعل؟ هل نعضّ الإسرائيليين؟)!
من الممكن أن السوريين الآن مستسلمون لقدرهم الجغرافي الذي يحكمهم، إذ أنهم على رغم كل شيء يدركون أن بلدهم اليوم- بمرتفعات الجولان وبدونها- ليس سوى جزء صغير مما كان عليه في سالف الأيام. وعندما قمت بزيارة إلى المتحف الوطني في مدينة دمشق، أشار الدليل الذي يرافقني في جولتي إلى خريطة لدولة الخلافة الأموية التي بسطت سيادتها على العالم الإسل