كيف انتهى الأمر بصدام حسين من رئيس لأغنى وأقوى دولة عربية إلى طريد معزول تقوده أقدار التشرد إلى اعتقال مهين على يد قوات احتلال اقتلعت نظامه من جذوره؟ لماذا تخلى عنه الجميع؟ كان بإمكانه، عندما كان الأمر يقع ضمن خياراته، أن يفعل أشياء كثيرة يوفر بها على نفسه، وعلى بلده وأهل بلده، الكثير من المعاناة والآلام. والحقيقة أنه عرض عليه مثل هذه الخيارات. لكنه لم يفعل. قصة صدام حسين طويلة ولا يمكن تناولها في مقالة محدودة المساحة مثل هذه. لكن المهم فيها أنه اختار بمحض إرادته الطريق الذي انتهى به مشردا طريدا في حفرة صغيرة في مسقط رأسه، تكريت. بعبارة أخرى، انتهى وريث نبوخذنصر، ومدعي الانتساب إلى النبي(صلى الله عليه وسلم)، وفارس العرب، وحارس البوابة الشرقية للوطن العربي، الرئيس القائد المهيب صدام حسين إلى سجين لدى قوات الاحتلال. أجبر على الجلوس مع خصومه الذين كان يحتقرهم من قبل. والأنكى من ذلك أن اعتقاله المهين لا يحرك ساكنا لا داخل العراق ولا خارجه، للدفاع عنه، أو لاستنكار إهانته وإذلاله. ترى هل يسأل صدام حسين نفسه في خلوة الاعتقال: لماذا وكيف انتهى به تاريخه السياسي لأكثر من ثلاثين سنة إلى ما انتهى إليه؟
هناك سؤال لا يقل أهمية عن ذلك: إلى ماذا يرمز سقوط صدام حسين، والطريقة التي سقط بها؟ وقبل ذلك سقوط بغداد؟ الكثير من ردود الفعل العربية على ما حدث لم تتجاوز في أغلبها الشماتة، أو الشعور بالإهانة مما حدث. وفي كل الأحوال تم التعامل مع سقوط صدام على أنه لا يتجاوز في دلالته الحالة الفردية.
هناك من تحدث عن الطاغية صدام، لكن باعتباره حالة معزولة عن محيطها الثقافي والسياسي. وهذا ما قاله الصحفي اللبناني، طلال سلمان، مثلا، عن اعتقال صدام في زاويته في صحيفة(السفير) بـ(أنها نهاية تليق بطاغية: جبار على شعبه، متخاذل أمام الاحتلال الأجنبي). الأكيد أن طلال سلمان يعرف أن صدام ليس الطاغية العربي الوحيد. بل إن بعضهم أقرب إليه من حبل الوريد. ثم إن أن صدام لم يكن متخاذلا أمام الاحتلال الأجنبي، وإلا فمعنى ذلك أن الطغيان مقبول من قائد ليس متخاذلا أمام مثل هذا الاحتلال. نعم صدام طاغية، لكنه ليس حالة فردية استثنائية. ثم هناك من تحدث عن الإهانة التي تعرض لها العرب لأن صدام استسلم من دون مقاومة. والشعور بالإهانة هنا يعني أننا نملك شيئا من صدام في داخل كل واحد منا، أو أن صدام يمثلنا بشكل جماعي. وهذه فكرة عرقية مشينة. صدام يمثل مرحلة تاريخية، ليس إلا.
إذا كان صدام قد أضاع ملك العراق، واستقلال العراق، بل أضاع العراق كله بكل خيراته وإمكانياته، ألا يمكن أن نقول شيئا قريبا من ذلك عن بقية الأنظمة العربية الأخرى؟ الأنظمة التي جاءت باسم الاستقلال منذ الانقلاب المصري عام 1952، وغيرها، انتهى بها الأمر أن أضاعت فلسطين، وأضاعت الأراضي العربية، وأ ضاعت الاستقلال العربي، والتنمية العربية. بل إن مسؤولية ما حصل للعراق وفي العراق لا تخص صدام وحده. مسؤولية صدام ونظامه الفاشي تقع في أغلبها ضمن حدود العراق. لكن ماذا عن مسؤولية ما يسمى بـ(النظام العربي الإقليمي)؟ لماذا سمح للعراق أن يغزو الكويت، مثلا؟ وعندما حصل الغزو، لماذا لم تكن عملية التحرير بأيد عربية؟ أنا أعرف أن ذلك كان، ولا يزال مستحيلا تقريبا. لكن ماذا يعني هذا؟ لماذا كان لابد أن تأتي الولايات المتحدة بجيوشها لتحرير الكويت بالنيابة عنا؟ يعني أن الدول العربية لم تكن مؤهلة للقيام بمهمة ضخمة مثل هذه؟ الأسوأ من ذلك، أن الحالة العراقية، قبل وبعد الغزو، تُركت عربيا تتفاقم تحت قيادة صدام، والعالم العربي يتفرج عليها؟ ليس لأن العرب كانوا غير آبهين بما كان يحدث. على العكس ما كان يحدث كان يشكل تهديدا للعرب، وخاصة للدول المجاورة. لكن لم يكن باستطاعة أحد أن يفعل شيئا.
هذه المرة جاءت أميركا من دون مشورة أحد. أسقطت النظام العراقي، واعتقلت قياداته، وتعمل الآن على إعادة صياغته سياسيا بما يتناسب مع مصالحها وأهدافها. وربما غاب عن بال الكثيرين منا، أن صدام قام بكل ما قام به من جرائم، ومغامرات، وحروب، واستهتار بكل ما هو عربي، لأنه كان يدرك أن العرب من الضعف والمهانة بحيث لا يملكون إلا خياراً واحداً، وهو مجاراته ومحاولة التهدئة من اندفاعه وغروره. لكن الولايات المتحدة تملك خيارات أخرى. تملك القوة، وتملك الإرادة السياسية لأن تفرض نفسها على الجميع. بل تملك أكثر من ذلك، وهو اعتقال صدام وقياداته وتقديمهم للمحاكمة.
الدلالة الرمزية لإلقاء القبض على الرئيس العراقي السابق، صدام حسين إذاً، وتحديدا للطريقة التي استسلم بها للقوات الأميركية، كبيرة بحجم التاريخ العربي الحديث. لا يعني سقوط صدام حسين إلا شيئا واحدا، وهو سقوط السياسة العربية في مرحلتها المعاصرة. وإعلانا عن الفشل الذريع والمهين للأنظمة العربية كلها من دون استثناء. سقوط صدام في الأسر ليس حالة فردية تخص صدام دون سواه. على العكس يرمز سقوط صدام إلى سقوط مرحلة سياسية عربية بكاملها. هناك أكثر