إن هذا لفصل في غاية الأهمية من التاريخ الأميركي، وإنه لمن واجبنا أن نرويه على النحو الصحيح. ذلك هو ما قاله توماس كين رئيس اللجنة المستقلة التي تتولى التحقيقات في أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لذلك فهو يعد بالكشف عن حقائق أساسية من خلال الشهادات والأقوال التي استمعت إليها اللجنة عند إعلان نتائج التحقيق الشهر المقبل. ولما لم يكن بوسع المرء إلا أن يردد مقولته: إن علينا أن نروي تاريخنا على النحو الصحيح، فإن تلك المقولة لا تقتصر على رواية تاريخ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحدها، وإنما تطال رواية تاريخ الأحداث التي أعقبت تلك الهجمات أيضا.
يقينا إن اعتقال صدام حسين قد كان له أثر في أن يتنفس العراقيون، بل العالم كله، سيما أميركا الصعداء. فهو لم يعد ذلك الشبح الذي ينقض علينا من الخفاء، ولا جدال في أنه كان وحشا وعفريتا شريرا يستحق أن يواجه المصير الذي ينتظره أيا كان. غير أن هذه الحقائق لا تقف مبررا لكي يستغل مناصرو الحرب على العراق، مناسبة الاعتقال هذه، لصرف أنظارنا عن الطريقة التي تم بها تضليل الرأي العام الأميركي، في خوض هذه الحرب، والتورط فيها، ومن ثم إعادة كتابة تاريخ السياسات الخارجية الأميركية من وجهة نظرهم هم.
وعلى أية حال، فإن هذه الحرب لم تخض إلا بميزانية مالية ضخمة وباهظة التكلفة. يذكر أن إدارة بوش قد حولت الرصيد الأكبر من الأموال المخصصة لإعادة إعمار أفغانستان لتمويل حملتها الجديدة على العراق، قبل أن تكتمل مهمتها التي بدأت في أفغانستان. نتيجة لذلك، فقد أتاحت الولايات المتحدة لعناصر (القاعدة) وقادة التنظيم فرصة الهرب، في الوقت الذي أتيحت لهم ولعناصر حركة (طالبان)، فرصة سانحة لإعادة تنظيم صفوفهم.
أما في العراق، فقد كانت معركة الغزو بحد ذاتها في غاية السهولة واليسر. ولكن تعقدت بعدها الأحداث كثيرا، ومضت نحو الأسوأ فالأسوأ. ولما كان الجزء الأعظم من جهود ودوافع الغزو الأميركي للعراق، قد اختزل في نهاية المطاف في جهود مواجهة المقاومة العراقية عسكريا، فقد ترك ذلك مجالا واسعا لإهمال الولايات المتحدة مسؤولياتها إزاء ما ينشأ من كوارث وأزمات هنا وهناك. صحيح أن اعتقال صدام حسين لن يكون حدثا مؤثرا له وقعه وأهميته، لو أنه تم في الأيام الأولى لتحقيق النصر. ولكن اعتقاله مؤخرا، لا يقلل الآن من خطورة الوضع الأمني المتردي في العراق، ولا من ركود الحياة الاقتصادية ونقص الوقود وتكرار انقطاع التيار الكهربائي. ولا شك أن في تردي الأوضاع الأمنية الراهنة في العراق، خطرا على أمننا القومي الأميركي. ذلك أن انشغال قسم كبير من الجيش الأميركي حاليا بمهام الاحتلال القائم هناك، له تأثيره على الاستعداد العسكري الأميركي العام لأي طارئ أو كارثة ما ربما تتعرض لها بلادنا. لكن ومع ذلك، فربما يكون اعتقال صدام حسين ضربة بداية لدائرة أمنية خيرة في العراق. فليس مستبعدا أن يقل أو يتلاشى أثر الهجمات العراقية، وربما بدأ الوضع الأمني العام في التحسن، مما سيكون له أثر مباشر على خفض التكلفة المادية والبشرية التي تتكبدها القوات الأميركية يوميا هناك.
لنفترض أن كل هذه التطورات الأخيرة قد حدثت بالفعل، ومضت الأمور في العراق نحو الأفضل، فإن ذلك لا يعفينا من إبداء ضيقنا وتبرمنا بقصة الحرب هذه، ورواية أحداثها على النحو الصحيح. والمؤسف أن إحسان رفع الذرائع والمبررات الثانوية، قد تغلب على أهمية قول الحقيقة والجهر بها عاليا.
فحتى هذه اللحظة، فقد اعتدنا جميعا على قبول حقيقة أن أسلحة الدمار الشامل العراقية -بوصفها المبرر الرئيسي لاستعجال شن الحرب على نظام صدام حسين- لم يثبت لها وجود البتة في العراق. ترتب على ذلك أن هذه الحقيقة لم تتحول إلى عبء أخلاقي أو مسؤولية سياسية تقع على عاتق إدارة الرئيس بوش. فهل هناك أسوأ من هذا في روايتنا وسردنا لأحداث التاريخ؟ والأسوأ أن استطلاعا عاما للرأي العام الأميركي- أجري الأسبوع الماضي في أعقاب إلقاء القبض على صدام حسين- أظهرت نتائجه المعلنة أن نسبة الأميركيين الذين يعتقدون أن لصدام حسين صلة ما بأحداث وهجمات الحادي عشر من سبتمبر على بلادهم، قد ارتفعت من 43 في المئة قبل اعتقاله، إلى 53 في المئة بعد اعتقاله. أي أنها شهدت ارتفاعا بنسبة عشرة في المئة، على رغم عدم توفر أية أدلة على هذه الشكوك التي كانت قد أثارتها حوله الإدارة، قبيل شنها الحرب عليه! فالظاهر هنا أن سياسة الرجم بالغيب التي تتبعها الإدارة، لا تزال تفعل فعلها في الرأي العام الأميركي، وتحقق ما رمت إليه الإدارة تماما.
وفي اعتقادي الشخصي أن هذا هو ما يؤرق أولئك الأكثر مثالية في تأييدهم للحرب. لذا فإنك تراهم يضعون آمالا عراضا في أن يتحقق حلم بناء الديمقراطية المنشودة في العراق، حتى يخف عليهم وزر هذا الشعور بالضيق والغثيان وتأنيب الضمير. فهم بذلك لا ينشدون نهاية سعيدة للمأساة، وإنما يتطلعون لغفران عن حرب شنت زورا، وبدوافع وذرائع ملفقة. الطموح هنا إذا هو لإراحة الضمير الأخلاقي المعذب، وا