أثبتت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة أن (السياسة الإثنية) (أي دخول معترك السياسة للدفاع عن المصالح العائلية أو القبلية أو الإثنية، المتجاوزة للأيديولوجيا) أصبحت مكوناً أساسياً للمسرح السياسي الإسرائيلي.
وكانت الدولة الصهيونية قد شهدت ظاهرة مماثلة عند تأسيسها عام 1948، إذ كان هناك حزب يمثل اليهود اليمنيين، على سبيل المثال، ولكن هذا الحزب اعتُبر من بقايا الماضي ليس إلا. فالأسطورة الصهيونية الحاكمة تصدر عن فكرة الشعب اليهودي الواحد، وتتفرع عنها أسطورة الدولة الصهيونية باعتبارها بوتقة صهر ليهود المنفى (الخارج) الذين سيعودون إلى وطنهم القومي، فيتخلصون من هوياتهم القديمة الكريهة، هويات (الجيتو) والخنوع والخضوع للأغيار والطفيلية والهامشية، ليكتسبوا هوية يهودية خالصة لا تشوبها أية شوائب من عالم الأغيار. ومن رماد اليهودي القديم سيظهر العبراني الجديد: شخصية غير معقدة، غير طفيلية، شخصية عسكرية صارمة (لا تختلف كثيراً عن الإنسان النوردي ووحش نيتشه الأشقر)، شخصية تعبر عن الجوهر اليهودي المختبئ وراء ركام المنفى. وكما يقول الشاعر الإسرائيلي أهارون شبتاي في قصيدته المعنونة (اليهودي الجديد):
اليهودي الجديد يستيقظ في المساء
ويلبس زيه العسكري ويقبل زوجته وابنه
وفى خلال ساعة أو ساعتين، يهدم حياً في إحدى جيتوات غزة
وعادةً ما ينجح في العودة إلى منزله في الوقت المناسب ليتناول القهوة والفطائر·
ولكن هذه السطور، شأنها شأن الأسطورة الصهيونية الحاكمة (أسطورة الشعب اليهودي الواحد)، ليس لها أي سند في الواقع. فالجماعات اليهودية المختلفة كانت تنمو وتتطور، كل واحدة في مجتمعها، بمعزل عن أي مركز يهودي ديني أو مدني يحدد المعيارية التي يتحدد من خلالها من هو اليهودي. واكتسبت كل جماعة يهودية خصوصية داخل مجتمعها ولكنها خصوصية تعزلها عن غيرها من الجماعات اليهودية، ولا تصب في خصوصية يهودية عالمية. فيهود العالم العربي تحدثوا العربية ويهود فرنسا الفرنسية ويهود شرق أوروبا اليديشية، ويهود أسبانيا اللادينو. بل إن العقيدة اليهودية نفسها كانت تتطور بعيداً عن أي مركز ديني أو مدني يحدد المعيارية اليهودية· ومع بداية القرن العشرين كانت هناك يهوديات مختلفة: يهودية أرثوذكسية (بقايا اليهودية الحاخامية) ويهودية محافظة وأخرى إصلاحية وثالثة تجديدية، بل وأصبحت هناك يهودية ملحدة تعترف بها الشريعة اليهودية (من منطلق أن اليهودي هو من وُلد لأم يهودية وليس بالضرورة من يعتنق اليهودية)، هذا إلى جانب عشرات الأقليات التي تختلط إثنيتها بعقيدتها. فيهود الفلاشاه في أثيوبيا، على سبيل المثال، يتحدثون الأمهرية، ويتعبدون باللغة الجعيزية، لغة العبادة في الكنيسة القبطية الإثيوبية!
ولعل ارتباط الهوية الإثنية لأية جماعة يهودية بعقيدتها يظهر بشكل واضح في يهود المغرب. فقد تأثروا بالخطاب الديني الإسلامي وبالتراث الحضاري المغربي، وحين هاجرت أعداد منهم إلى فرنسا، أطلق عليهم يهود فرنسا اسم (كوشركوسكوس). وكلمة (كوشر) تشير إلى الطعام المباح شرعاً في الشريعة اليهودية، بينما تشير كلمة (كوسكوس) إلى الطعام المغربي الشهير، فكأن يهوديتهم ليس لها وجود خارج انتمائهم الإثني، وانتماؤهم الإثني مرتبط تماماً بعقيدتهم.
وقد أُلقي بكل هؤلاء اليهود في الدولة الصهيونية تحت قيادة اليهود الإشكناز (الذين أتوا أساساً من بولندا وروسيا) بمقتضى قانون العودة الذي يعطي أي يهودي الحق في العودة إلى (وطن أجداده) بعد غيبة (قصيرة) دامت آلاف السنين! ولكنهم بعد وصولهم، وبعد دخولهم بوتقة الصهر اكتشفوا الشيء البديهي (الذي غاب عن الصهيونية)، ألا وهو تعدد الهويات اليهودية الإثنية والدينية، مما جعل تعريف من هو اليهودي أمراً في حكم المستحيل! ولكن النخبة الإشكنازية القائدة والحاكمة نجحت من خلال آليات القمع والتوجيه والتخطيط المختلفة في إخفاء التناقضات وفى فرض معيارية إشكنازية سمتها (يهودية)·
ولكن هذه التناقضات عاودت الظهور مع نهاية الستينيات وبدأت تطفو على السطح تدريجياً. فقامت حركة (الفهود السود)، على سبيل المثال، ثم جاء حزب (الليكود) (الإشكنازي اليميني) إلى سده الحكم بأصوات الشرقيين نكايةً في النخبة (العمالية) الإشكنازية الحاكمة. ومع هجرة الفلاشاه واليهود السوفييت ازداد التناقض تفاقماً، فهناك يهود لا يرحب المجتمع الصهيوني بهم ولا يريد اندماجهم فيه مثل الفلاشاه (و(بني إسرائيل) من الهند والعبرانيين السود من قبلهم)، وهناك من رحب بهم المجتمع الصهيوني في بادئ الأمر وحاول أن يمحو شخصيتهم وهويتهم ففشلوا في الاندماج مثل اليهود المغاربة (واليهود العراقيين من قبلهم). وهناك أخيراً من رحب بهم المجتمع الصهيوني وأعطاهم مزايا (لم ير مثلها الشرقيون) ومع هذا يرفضون الاندماج مثل الروس. وقد كونت هذه الجماعات أحزاباً جعلت هدفها تحقيق مصالحها (وهويتها الإثنية) دون اكتراث كبير بالأيديولوجية الصهيونية وقيمها الإشكنازية.
ولا شك أن المجتمع الإسرائيلي قادر