حتى الأمس القريب كانت الخرطوم الرسمية تسمي الحركة الشعبية لتحرير السودان بـ حركة التمرد وكان اللقب الرسمي لقائدها العقيد الدكتور جون قرنق المتمرد جون قرنق ·· تاريخياً فقد ورثت الحكومة الحالية هذه (الموصفات) من عهود سالفة، فمنذ اندلاع شرارة الحرب الأهلية عام 1955 في حامية توريت الاستوائية تواطأ الإعلام الرسمي والشعبي على اعتبار أن ما حدث في الجنوب هو مجرد تمرد ضد السلطة الشرعية التي كانت في جوهرها سلطة شمالية·· ومن هنا، من هذا الموقف العقلي المسطح بدأت مأساة السودان الدامية وتجاهلت الحكومات المتعاقبة في الأغلب الأعم الأسباب والجذور الحقيقية التي دفعت مواطنيها الجنوبيين إلى حمل السلاح في وجه الدولة ومن ثم فات عليها أن تصل إلى العلاج الموضوعي السليم لإنهاء التمرد ، فكان ما كان وأصبح التمرد العسكري المحدود ناراً مشتعلة مسّ لهيبها ودمارها كل السودان··· وبقية القصة معلومة للجميع···
يوم الجمعة الماضي استقبلت الخرطوم أول وفد رسمي من الحركة الشعبية لتحرير السودان استقبالاً رسمياً وشعبياً حاشداً وحافلاً وصفه أحد أعضاء وفد الحركة بأنه (فاق التصور والخيال)·· وقد كان استقبال جماهير الخرطوم لوفد الحركة بحق كبيراً ومؤثراً، فقد احتشد عشرات الآلاف على جوانب الطرق المؤدية إلى المطار وامتلأت ساحات المطار على سعتها بمستقبلين متحمسين هاتفين بالسلام وبحياة الحركة الشعبية والوحدة الوطنية·· ولم يخيب باقان ايوم رئيس الوفد والقيادي البارز في الحركة والأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي ظنهم، فقد كانت أول عبارة نطق بها في الخرطوم أن (الوفد جاء يحمل رسالة السلام العادل للشعب السوداني وأنه آن الأوان لفتح صفحة جديدة تنهي أشكال التهميش والاضطهاد والاحتراب بين السودانيين والتوجه كلياً نحو السلام العادل والاستقرار وحفظ كرامة الانسان السوداني عبر تحول ديمقراطي يحقق مشاركة كل السودانيين في إدارة شؤون بلدهم ويحقق العدالة في ربوع السودان)···
من الواضح أن الحركة الشعبية بهذه الخطوة المحسوبة بذكاء شديد قد طرحت نفسها قوة سياسية على مسرح السياسة السودانية، وأنها قد كسرت طوق العزلة التي كانت مفروضة عليها ومنها وتوجهت مباشرة للجماهير السودانية عارضة نفسها كصانع مقتدر للسلام يطمح أن تكون له مكانة مرموقة في السودان الديمقراطي القادم··· السودان الجديد·
وعلى رغم أن جميع الأحزاب السودانية الحاكمة والمعارضة قد تبارت في حث جماهيرها على استقبال وفد الحركة الشعبية، فإن الملاحظ المدقق لن يفوته أن يلحظ من طبيعة الحشود الجماهيرية أن للحركة وجوداً جماهيراً حقيقياً ربما كانت تدخره لمثل هذا اليوم وأيام أخرى قادمة···
وهكذا سيلحظ الناس في مقبل الأيام أن كلمات التمرد والمتمردين ستختفي تدريجياً من قاموس السياسة السودانية وستحل محلها كلمات: (الإخوة) و(الشركاء) و(المناضلون الوحدويون)· · وكل ذلك -بالأمل- سيكون في مصلحة السودان والشعب السوداني·
المتمردون قادمون··· وهم قد قدموا فعلاً ودخلوا الخرطوم ليس كغزاة فاتحين ولكن كشركاء في وطن كبير يمكن أن يتسع ويحتوي الجميع بالعدل والحكمة والديمقراطية السمحاء···