خلافاً لما يقال في الوقت الراهن، يشكّل القبض على صدّام حسين نذير شؤم على حملة (بوش) الساعي إلى إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، كما يطلق إشارة سيئة فيما يتعلق بالفوضى والمقاومة المستمرة في العراق.
لقد كان صدّام حسين في ظروف مخزية عندما استسلم· فقد اختبأ في حفرة في الأرض-ولربما عاش في سقيفة قبل ذلك، وقد وجدوا الحفرة مليئة بأكوام من الثياب الوسخة وأطباق الطعام غير المغسولة، كما وجدوا في البيت الطيني ثلاجة مليئة بالسكاكر والمشروبات الغازية غير الكحولية. وقد شكّل ذلك كله دليلاً واضحاً يؤكد أن التمرد على الاحتلال لم يتلقَ الأوامر من هذا المكان.
ومن هنا يكون في خانة التمنيات أن يتوقع البعض أن يؤدي القبض على صدام وحيداً إلى إبطاء أو إنهاء العنف. لا بل إن ذلك قد يحث على عكس ذلك ويثيره. فقبل ذلك كانت الأغلبية الشيعية ترى أن هناك إمكانية بعيدة لعودة صدّام إلى السلطة، وأنه نجا هو وعناصر جهاز حزب البعث المنتشرين في أرجاء العراق كلها؛ ولذلك كان لدى الأغلبية الشيعية مبرر للبقاء على العلاقات الطيبة مع سلطة الاحتلال الأميركي الساعية إلى مطاردته والقبض عليه. لكن زوال صدّام الآن يعني أن المرجعيات الشيعية صارت حرّة في التعبير عن طموحها الحقيقي، ويتمثل في حصة من السلطة تتناسب وحجمها كأغلبية بين سكان العراق. وقد بقي معظم الزعماء الشيعة حتى الآن، وعلى نحو موضوعي، حلفاء أو على الأقل حياديين، في سياق سعي واشنطن إلى السيطرة على البلاد.
لكنهم الآن سيتحولون إلى عناصر ناشطة في الصراع السياسي على السلطة. ويشكل هؤلاء الآن قوة تفوق في أهميتها القوة التي كان من الممكن لصدام أن يحشدها زعيماً كان أو شهيداً، وذلك باعتبار أنهم قادرون على إخراج ملايين العراقيين إلى الشوارع كمتظاهرين أو كمقاتلين، ليشاركوا في نسخة من الإسلام تتصف بعنصر عاطفي شديد القوة يتجلى في التضحية بالنفس.
أما الأقلية السنّية التي هيمنت على العراق منذ زمن الإمبراطورية العثمانية، والتي انخلعت من موقع السلطة والحكم بفعل التدخل الأميركي، فقد صار لديها الآن السبب الأكثر إلحاحاً الذي يدفعها إلى القتال في سبيل استعادة السلطة والامتيازات.
ومن الممكن أن تكون الحكومة الجديدة على شكل اتحاد فيدرالي تتعايش فيه الفئات الرئيسية السنّية والشيعية والكردية وكذلك التركمانية والمسيحية بمختلف مذاهبها ومللها، وذلك بموجب أسس وشروط نيابية، وعلى وجه التقريب ديمقراطية.
ومن المحتمل والممكن أن تميل الولايات المتحدة الأميركية إلى تفضيل هذا الحل، على الأقل من حيث المبدأ، لكن من الممكن أيضاً أن تتوقع (أو أن يكون من الضروري) أن تبقى في العراق من أجل الحفاظ على ذلك التوازن. لكن ذلك سيواجه العقبة التي تشكلها القومية في العراق والتي أدت هذه الحرب إلى إثارتها وتحفيزها، إضافة إلى أن ذلك سيحرم الشيعة من الدور السياسي المهيمن الذي يريدونه لأنفسهم.
ويتمثل الاحتمال الممكن الثاني برجوع الحكومة المركزية والتي من المحتمل والمرجح أيضاً أن تكون فاشستية، إلى قمة هرم السلطة وذلك على أيدي الفئة السنّية التي من المعلوم أن أبناءها أفضل تعليماً وثقافة. لقد اعتاد الأميركيون على التعامل مع هذا النوع من الحكومات في العالم العربي؛ وهكذا تعود القومية والمصالح الطائفية لتكون من جديد هي العقبات.
ومن شأن حكم الأغلبية الشيعية أن يكون فيه عنصر التحيز إلى حكومة ثيوقراطية دينية من النوع الإيراني، وهو ما لا تريد له واشنطن أن يتحقق في العراق.
ومن جهة أخرى، هناك حدود لما يمكن للولايات المتحدة أن تفعله في هذا الشأن، ويتمثل ذلك في افتقارها إلى الحكم المباشر المستمر. ومن المفترض أن تؤدي انطلاقة شهر يونيو المقبل إلى وضع العراق على مساره نحو الديمقراطية، على رغم أنني لا أدري ولا أعلم كيف ينبغي أن يتم حقاً إنجاز هذه الغاية المرغوبة.
ويلخص الكاتب العراقي زكي العيدي هذا الأمر بقوله:(إن الشيعة، الذين يبدو أنهم قد دعموا التدخل الأميركي على نحو ضمني، لا يستطيعون إيجاد شرعية دائمة سياسية إلاّ بمناهضة الولايات المتحدة، في حين أن السّنة الذين فقدوا معظم ما يتمتعون به في التدخل الأميركي سيكونون على الأرجح أفضل حلفاء لواشنطن ضد استيلاء الشيعة على الحكم)·
أما في ما يتعلق بـ(جورج بوش) فإن القبض على صدّام حسين يحوّل هذا الرئيس الأميركي من زعيم حرب إلى بنّاء يبني عراقاً جديداً. ومن الناحية الانتخابية، من المرجح أن يندم (بوش) على هذا التغيير الذي طرأ عليه.
وإذا لم ينتج عن استجواب صدّام حسين ذلك الكشف الشهير عن أسلحة التدمير الشامل التي كانت تهدد القدس والقواعد الأميركية والبريطانية في المنطقة (ناهيك عن ذكر القواعد المرابطة في واشنطن ونيويورك)! فإن من المؤكد أن يتم من جديد فتح مسألة سبب ومحور هذه الحرب.
وإن الإخفاق في الحصول من صدّام على معلومات جديدة سيؤكد ما يشكل حتى الآن الشهادة الموحدة التي اتفق فيها العلماء والمسؤولون العراقيون بالإجماع -وليس هنا