ليلة السبت ملأت معدتي بأضلاع الضأن وفطائر البطاطا في وليمة أقيمت في عطلة نهاية الأسبوع بمنزل دونالد وجويس رامسفيلد. وعلى رغم أنني تبادلت أطراف الحديث مع (رامسفيلد) ومع (جورج تينيت) رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية -وكلاهما كان مطلعا على سر القبض على (صدام حسين) الذي كان قد تم قبل موعد الحفل بساعات قليلة- فإن أي من الرجلين لم يلمح لي بشيء من ذلك على رغم من أنني أعد من زمرة المطلعين على بواطن الأمور في واشنطن.
وبعد أن انتشر الخبر صباح الأحد، طلبت من أحد مصادري في بغداد أن يتحدث مع أعضاء مجلس الحكم العراقي، الذين أمضوا قرابة نصف الساعة مع السجين بعد أن تم إخراجه من (حفرة العنكبوت)، التي كان يختبئ فيها.
وصف أعضاء مجلس الحكم العراقي رد فعل صدام بأنه كان عدائيا تجاه وجود القادة العراقيين الشيعة. وقد تبدى ذلك حين قام بمخاطبة عدنان الباجه جي السني الوحيد بينهم قائلا له: ماذا تفعل مع هؤلاء الأشخاص؟.
وعندما سأله أحد الزعماء الشيعة قائلا : لماذا قتلت الإمام الصدر؟ رد عليه صدام متهكما: (صدر أم رجل؟)·
كان هذا بالطبع لعب بالألفاظ يحمل صيغة الاحتقار: فكلمة (صدر) وهي اسم رجل الدين المقتول (محمد صادق الصدر) معناها في العربية ذلك الجزء من الجسم الذي يطلق عليه (الصدر)، أما كلمة (رجل)(بكسر الراء) فتعني (القدم). إن صدام حسين الذين قتل مئات الآلاف من الشيعة الذين جرءوا على معارضة حكمه لم يفقد حس السخرية المرعب الذي يتصف به، على رغم الفترة التي قضاها في (جحر العكنبوت)·
وهناك معلومة أخرى مفيدة بشأن أصل كلمة (جحر العنكبوت) التي استخدمها الليفتنانت جنرال (فريق) ريكاردو سانشيز لوصف المخبأ الذي كان يختبئ فيه الهارب صدام منكمشا ومذعورا تحت الأرض.
فهذه الكلمة يقتصر استخدامها على الجيش الأميركي، وهي مستمدة من الحقبة الفيتنامية، حيث كان رجال (الفيت كونج) يقومون بحفر ما يطلقون عليه بلغتهم أنفاق (كو شي)، التي كانت تعني جحر محفور في باطن الأرض يمتد لعمق يسمح بوضع إناء فخاري كبير قادر على احتواء رجل في الوضع جاثما، وتغطيته بلوح من الخشب مغطى بدوره بأوراق الأشجار. وعندما تمر دورية أميركية على رجال حرب العصابات ، وهم في هذا الوضع ، فإنهم كانوا يقفزون منها فجأة، ويطلقون النار على أفراد الدورية. ولكن تلك الحفر كان لها أيضا مخاطرها .. فلو حدث أن انكسر الوعاء الفخاري، أو تشقق، فإن رجال حرب العصابات الفيتناميين كانوا يصبحون في تلك الحالة عرضة لهجوم العناكب أو الثعابين السامة.. ومن هنا جاءت تسمية (جحر العنكبوت)·
تلك هي الحقائق المتعلقة باعتقال صدام حسين.. والآن يأتي دور التكهنات. فالديمقراطيون الآن أصبحوا يقولون وقد تملكهم الندم: (لأننا نجحنا في الإيقاع بصدام حسين ، فإننا سنعاني أربع سنوات إضافية من جورج بوش).. وما يقوله الديمقراطيون سيصبح صحيحا إذا ما قام صدام الأسير بكشف النقاب عن أسلحة الدمار الشامل، وعن علاقته بتنظيم القاعدة، مؤكدا بذلك المعلومات الاستخبارية، التي يقول البعض إن رجال بوش من المحافظين الجدد قد قاموا بطبخها لتبرير قيامهم بشن الحرب على العراق.
بالنسبة لي أعتقد أن صدام ما زال هو صدام: الرجل المغرور نفسه، المدعي، الحقود، المصاب بجنون العظمة. إنه يعرف أنه ميت لا محالة سواء كان ذلك من خلال حكم بالإعدام، أو من خلال القتل في زنزانة السجن على أيدي أفراد عائلة ضحية من ضحايا القهر. وهناك سؤال يخطر على الذهن في هذا السياق: طالما أن صدام حسين كان يحمل مسدسا معه عندما تم إلقاء القبض عليه.. فلماذا لم يقم باستخدامه لتبادل إطلاق النار مع أفراد القوة التي ألقت القبض عليه.. بل لماذا لم يقم بإطلاقه على رأسه؟. إنه لم يفعل ذلك لأنه ينتظر (أم جميع محاكم القتل الجماعي)، التي ستضاهي محكمة (نورمبرج)، وقد تفوق المحكمة التي عقدت لمحاكمة (إيخمان)، أو (ميلوسيفتيش)·
ففي تلك المحاكمة سيستطيع صدام أن يلعب دور البطل العربي الذي يسعى إلى إنقاذ الإسلام من براثن البوشيين واليهود.
وعند التحقيق معه، واستجوابه، فإنه ليس متوقعا منه أن يقوم بالتبليغ عن الفدائيين ، أو أن يقودنا إلى مليارات الدولارات المخبئة في الخارج، أو حتى يقوم بإخبارنا عن الصفقات القذرة التي قام بعقدها مع فرنسا وروسيا. بدلا من ذلك سيقوم بالكذب علينا طيلة الوقت وعلى طول الطريق إلى الشهادة كما يظن.
المثال على ذلك: هو أن الدكتور (إياد علاوي) وهو زعيم عراقي، طالما اعتبر رجلا يمكن الاعتماد عليه من قبل وكالات الاستخبارات، قد أدلى بحديث لصحيفة (الديلي تلغراف) البريطانية الأسبوع الماضي، قال فيه إنه قد تم العثور على مذكرة مؤرخة في الأول من يوليو عام 2001 موجهة من قائد شرطة صدام السرية إلى الديكتاتور يبلغه فيها أن الإرهابي القديم (أبونضال) كان يقوم بتدريب شخص يدعى (محمد عطا) في بغداد. وطبعا كلنا نعرف ما حدث بعد ذلك وبعد انقضاء عدة شهور على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حينما تم اسكات أبو نضال إلى الأبد بوا