يختلف المشهد السياسي السعودي في هذه السنة بشكل خاص عما كان عليه في كل السنوات السابقة. بدأت السنة بتقدم 104 من المهتمين بالشأن العام، من كتاب، وأكاديميين، ورجال أعمال، وفنانين، وموظفين، سنة وشيعة، بعريضة إلى ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. جاءت في هذه العريضة إعادة للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية طموحة. في سبتمبر تقدم أكثر من 300 من الفئات ذاتها بعريضة أخرى إلى ولي العهد تحمل تقريبا المطالب نفسها. لكن هذه المرة وقعت على العريضة أكثر من خمسين سيدة. ثم جاء انعقاد لقاء الحوار الوطني برعاية ولي العهد السعودي، الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، في شهر مايو الماضي. و قد ضم اللقاء، ولأول مرة، ممثلين من مختلف المذاهب الدينية في السعودية. بعد ذلك، وفي الشهر نفسه، حصل حادث التفجير الإرهابي في 12 مايو.
في شهر أكتوبر صدر قرار مجلس الوزراء بالعمل بالانتخابات البلدية ابتداء من العام القادم. مع ملاحظة أن هذا القرار ليس فيه شيء جديد عدا العودة إلى مبدأ الانتخابات الذي سبق أن عمل به من قبل عام 1385هـ ـ 1965، إلا أن العودة هنا قد تمثل بداية جديدة لمسيرة إصلاحية شاملة. في الشهر نفسه حصلت المظاهرة الشهيرة في الرياض. ومن المعروف أن المظاهرات ممنوعة في السعودية. ومع ذلك لم تكن هذه المظاهرة هي الأولى في تاريخ السعودية. لكنها جاءت هذه المرة بعد انقطاع طويل، وفي قلب العاصمة، وأمام مقر انعقاد المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان في حينها، وفي إطار سنة جاءت مليئة بأحداث لم يعهدها المجتمع السعودي. والأهم من كل ذلك أن المرأة، ولأول مرة، شاركت في هذه المظاهرة وبعدد من الناحية القياسية كبير.
جاءت بعد ذلك، وفي شهر رمضان (نوفمبر)حادثة التفجير الإرهابي البشعة، وبحجمها غير المعهود في مجمع المحيا في الرياض. حدوث هذا التفجير بعد خمسة أشهر من تفجيرات مايو، والحجم التدميري لكليهما، يشير إلى أن وتيرة الإرهاب أخذت طابع التتابع بفارق زمني صغير على عكس ما كانت عليه من قبل، خاصة في ضوء المواجهات المستمرة بين قوات الأمن والعناصر الإرهابية. لم تتوقف الأحداث هنا. فقد جاءت بعد ذلك، حادثة حميدة، لكنها لم تكن معهودة من قبل. وأعني بذلك تراجع كل من الشيخين علي الخضير، وناصر الفهد، عن منهج التكفير الذي تبناه كل منهما، واعترافهما بالخطأ المدمر لهذا المنهج، ومن ثم تراجعهما عن الفتاوى التكفيرية التي أصدرها كل منهما في حق بعض من اختلف معهما من كتاب وغيرهم.
لم يحدث قط في التاريخ السعودي أن عاد مرجع ديني عن موقفه وقناعاته الدينية بشكل اعترافي وعلني على الملأ. وهذا بحد ذاته ليس مدعاة للتحوط، والتساؤل عن مدى مصداقية هذا التراجع. لكن الطريقة الإعلامية التي قدم بها هذا التراجع، وفي ضوء أنه جاء في سياق المفاهيم التكفيرية ذاتها التي تولد عنها تيار الجهاد التكفيري، يصبح مثل هذا التساؤل وذلك التحوط مشروعا.
كان من الطبيعي أن تثير كل تلك الأحداث موجة من الجدل والحوارات· وكذلك حظيت تراجعات الشيخين الخضير والفهد، ودلالة هذه التراجعات ومدى صدقيتها، بنصيب كبير من موجة الجدل والحوارات تلك.
أول شيء يمكن استنتاجه هنا هو أن التيار الديني المتطرف يصطدم الآن مع الدولة للمرة الثالثة. المرة الأولى كانت عام 1929، والمرة الثانية كانت عام 1979· الأمر الثاني أن الدولة تبدو كمن يتلقى الحدث، ويستجيب له بالطريقة التي يراها. لكن من دون أن يكون هو صانع للحدث. الإرهاب موجه في الأساس للدولة، ومطالب الإصلاحات موجهة للدولة، والحوارات وما يرافقها من جدل، إلى جانب أن موضوعها الرئيسي هو الدولة، إلا أنها تتطلع إلى الدولة أيضا. الشيء الوحيد في هذا الإطار الذي يمكن القول بأن الدولة بادرت إليه هو إنشاء مركز الحوار الوطني، وإعلان قرار الانتخابات البلدية. لكن حتى هذا جاء في الأساس كرد فعل على ما حصل من أحداث في الفترة الزمنية نفسها. الأمر الثالث الذي تقوله أحداث هذه السنة أن الحوار حول الإصلاح بمعناه الواسع الذي يتضمن المشاركة السياسية، وحول التطرف والإرهاب وجذورهما في الثقافة السعودية أخذ يكتسب مشروعية لم تكن متوفرة له من قبل. وبما أن المدار الرئيسي لأحداث هذه السنة هو الدولة وعلاقتها بالدين، يصبح من المهم إلقاء اطلالة على ما تقوله الأحداث المشار إليها عن هذا الموضوع تحديدا. وقد اخترت موضوع التراجعات لعلاقته المباشرة بذلك، ولكونه الافراز الرئيسي للمواجهة بين طرفيها.
أول ما يمكن ملاحظته في هذا السياق أن الطريقة الاحتفالية التي تم بها تقديم الاعترافات تترك الانطباع بأن موضوع التيار التكفيري هو شأن شخصي فردي. وهذا غير صحيح. هذا التيار شأن اجتماعي سياسي بالدرجة الأولى. وهو تيار ثقافي متغلغل في الثقافة السعودية. لا شك في أن تراجع بعض الرموز قد يترك أثره في تراجع آخرين. لكن المطلوب حقا هو إيجاد الأرضية والمبررات لانحسار هذا التيار، وسحب المشروعية الثقافية والسياسية، إلى جانب المشروعية الدينية من تحت أقدامه. و