بعد عقد كامل من العقوبات الدولية التي حولت المعمل الفيزيائي الذي يعمل فيه الدكتور العراقي رعد محمد إلى خربة لا نفع منها، اضطر الأكاديمي المذكور إلى الفرار من بلاده. ففي عام 1999، سلك الدكتور الطريق نفسه الذي سلكه الآلاف من خيرة وأميز الأكاديميين العراقيين، دون أن يصحبه أحد أو شيء سوى زوجته، والقليل من الملابس والنقود لرشوة رجال مخابرات صدام حسين المرابطين على الطريق الحدودي المؤدي إلى الأردن. وكان رحيله صامتا وخاليا من جلسات وكلمات الوداع مع زملائه ورفاق دربه من الأكاديميين. لم يكن الدكتور رعد وحده الذي لجأ إلى هذا الخيار كما سبق القول، بل لجأ إلى الخيار نفسه ما يقدر عدده بحوالى ألفي أستاذ جامعي عراقي خلال الأعوام 1995-2000، وفقا للتقارير الأخبارية الصادرة في ذلك الوقت. وقبل ذلك العدد، كان قد غادر العراق مئات من أكفأ وأذكى الأكاديميين العراقيين.
لكن وبعد أن زال نظام صدام حسين، ها هو الدكتور رعد محمد يعود مرة أخرى إلى وطنه. وهو لم يتخذ هذا القرار إلا بدافع حبه لوطنه وانتمائه الراسخ إليه، ورغبته الأكيدة في استعادة جامعات بلاده لعصرها ومجدها الذهبي في عقدي السبعينيات والستينيات. وقد كانت الجامعات العراقية حينها، قبلة طلاب العلم من مشارق الشرق الأوسط ومغاربه على حد سواء. قال الدكتور محمد معلقا إثر عودته: ها نحن أحرار الآن، وكان يجلس في مكاتب شعبة العلوم في جامعة بغداد. أنا ابن هذه الجامعة، وكلي أمل في أن أسهم في صنع مستقبلها المجيد، واستعادة مستواها إلى ذلك المستوى المشرف الذي تخرجنا به.
وفي استدارة مفاجئة للأحداث في العراق، بدأ الأكاديميون العراقيون ينتبهون إلى حقيقة أن موجة (هجرة الأدمغة العراقية) العارمة التي شهدها عقدا الثمانينيات والتسعينيات، قد بدأت بالانحسار الآن، على رغم أن ذلك يحدث ببطء وعلى نحو تدريجي. فخلال الأشهر القليلة الماضية ذكرت تقارير مديري ورؤساء الجامعات العراقية، أن العشرات من الأساتذة الجامعيين الذين هربوا من كلياتهم ومعاهدهم خلال السنوات الماضية قد عادوا إلى البلاد، وهم يتطلعون للعودة إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها من قبل. بل تلقت وزارة التعليم العالي العراقية التي تقودها إدارة أميركية حاليا، عشرات الرسائل الإلكترونية من أساتذة جامعيين أبدوا رغبتهم في العودة من المهجر والمنافي من مختلف الدول، كالولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا وهولندا وغيرها. بل أبدى البعض رغبته في تقديم منح دراسية ومعونات للمؤسسات الأكاديمية العراقية، إضافة إلى إبرام شراكات وعلاقات تبادل أكاديمي مع جامعات أوروبية وأميركية.
ومثلما كان غياب هؤلاء الأساتذة الجامعيين سمة من سمات العصر الصدامي، بالقدر نفسه أصبحت عودتهم وظهورهم من جديد، علامة من علامات العافية الأكاديمية، وبشارة فأل وأمل لمستقبل التعليم العالي العراقي، سيما بالنسبة إلى زملائهم الذين بقوا في الداخل أيام المحنة، ولا يزالون يصارعون من أجل عودة الحياة الطبيعية للمؤسسات الجامعية التي طالما عانت ويلات القهر الأكاديمي والعقوبات الدولية وأعمال النهب والسلب، ثم الإرهاب مؤخرا.
من بين الأكاديميين الذين هربوا من العراق أيام صدام حسين البروفيسور العراقي الكيمائي غازي درويش الذي يعيش حاليا في العاصمة البريطانية لندن، ويعمل كأستاذ زائر في جامعة (ساري). كان درويش قد فر من جحيم قهر البعث منذ نحو أحد عشر عاما، وكان يخالجه الشعور بأنه لن يعود لبلاده مطلقا. إلا أن الحرب غيرت كل هذه التصورات، فقد كان حينها يرتب للعودة تارة أخرى تحت طلب المستشار الأميركي الأعلى بوزارة التعليم العالي العراقي. ولا يزال هذا المستشار يبحث عن درويش وأمثاله، ممن يحملون مؤهلات جامعية وفوق جامعية مرموقة، ويتحدثون اللغة الإنجليزية بطلاقة، فضلا عن عدم ارتباطهم بمؤسسات نظام (حزب البعث) السابق. اليوم يعد درويش من بين قلة من الأساتذة والأكاديميين العراقيين العائدين من المهجر، ممن تم تمثيلهم في السلطة الحكومية المدنية المؤقتة للتحالف الدولي في العراق. وتقع على عاتق هذه السلطة، علاوة على مهامها الأخرى، مسؤولية إزالة آثار سياسات (البعث) السابقة من كافة نواحي الحياة العراقية.
وفي الوقت الذي عاد فيه الكثير من الأكاديميين العراقيين المنفيين من مهاجرهم في كل من اليمن وليبيا والأردن وغيرها من الدول المجاورة، ورجعوا إلى وظائفهم التدريسية السابقة، بقي آخرون في العاصمة البريطانية لندن وغيرها بهدف تنظيم المنح والمعونات وعلاقات التبادل الأكاديمي مع الجامعات العراقية. وعلى الصعيد نفسه، أنشأ الدكتور العراقي عبد الجبار الواحدي، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، موقعا إلكترونيا على شبكة الإنترنت بعنوان (التعليم العالي العراقي). والهدف من الموقع هو ربط العلماء العراقيين المقيمين خارج العراق، بالجامعات والوزارات والمنشآت العراقية المختلفة. ومن بين المبادرات، أن أكاديمياً عراقياً واحداً جلب مئة جهاز كمبيوتر لإحدى الجامعات