لا يوجد تبرير واضح للتناقض الحاصل بين التوجهات التي تتبناها الفضائيات العربية، وخاصة الخليجية منها، وسياسة الأنظمة والحكومات التي تمتلكها· فالمشاهد لهذه القنوات يجد أنها قوية وصارمة وراديكالية ومعارضة للسياسة الأميركية، وترفض الاحتلال الأميركي للعراق، وتهاجم الأسلوب العسكري في إدارة المسألة العراقية، وتختار ضيوفها عادة من المعروفين بولعهم بالخطب الحماسية والشعارات الثورية والمنحى التحريضي· وعلى الجانب الآخر نجد أن حكومات الدول التي تمتلك هذه الفضائيات، إما صامتة ولا تفعل شيئاً حيال ما يحدث، أو تصدر تصريحات لا تعني شيئاً وذلك لذر الرماد في العيون، ربما لأنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً تجاه ما يحدث·
ما هي طبيعة المعادلات التي تحكم مثل هذا التناقض؟ هل يمثل ذلك بالفعل تناقضاً في التوجهات والأهداف أم إنه مجرد توزيع متفق عليه للأدوار بغرض استغلال مشاعر ما يسمى (الشارع العربي) وتهدئته؟ وهل يمثل محاولة للمزايدة على قوى أخرى وسحب بساط (الوطنية) من تحتها بتبني مقولات وشعارات أكثر تطرفاً مما يمكن أن يصل إليه مستوى التحرك على الأرض؟ وهل الفضائيات مجرد وسيلة للتشويش وزيادة اضطراب المشهد السياسي والإعلامي العربي لتختلط الأدوار والمواقف أكثر؟ وهل هي محاولة لاستقطاب أكبر قدر ممكن من المشاهدين لتمرير رسائل ومهاجمة أطراف بعينها بطريقة مغلفة أو واضحة، اعتماداً على وصول الرسالة إلى قطاعات عربية واسعة، بحيث تصبح سلاحاً للتهديد وأداة للضغط السياسي؟
يحاول البعض أن يفسر التناقض بين موقف الحكومات وموقف الفضائيات التي تمتلكها بأنه جزء من حرية التعبير في العالم العربي! وهي إجابة أكثر غرابة من التناقض الذي تحاول تفسيره، فمن الذي يمكنه أن يقول إن مساحة الحرية المتاحة عربياً تسمح لأي وسيلة إعلامية أن تختلف مع توجهات الدولة التي تملكها أو حتى التي تبث من على أرضها؟! ولماذا تقف هذه الديمقراطية المجتزأة عند الإعلام وحده في حين يفترض أن المشاركة السياسية والتمثيل النيابي والمجتمع المدني وإمكانية تداول السلطة هي الجوانب الأكثر إلحاحاً والأقرب إلى مفهوم الديمقراطية؟ وكيف يمكن لأصحاب نظرية (ديمقراطية الإعلام فقط) أن يبرروا التناقض بين الرأي العام ورأي الحكومات في الدول المعنية؟! ففي المجتمعات الديمقراطية الجديدة منها والقديمة نجد أن الحكومة، وإن اختلفت مع الرأي العام في حالات نادرة، لا تستطيع الاستمرار في هذه الخلافات لفترة طويلة·
إن القضايا التي تناقشها هذه الفضائيات والخطاب الإعلامي الصادر عنها يتناقض تماماً مع الممارسات السياسية في الدولة الحاضنة لها من نواح عديدة:
( تهاجم الفضائيات الأسلوب العربي التقليدي في إدارة شؤون الدولة والحكم وانعدام المشاركة السياسية في الدول العربية، وتتهم الأنظمة الحاكمة عادة بالديكتاتورية والتخلف وقمع الرأي ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، فضلاً عن الفساد وسوء إدارة الموارد، وأغلب الدول الراعية لهذه الفضائيات لا توجد فيها مؤسسات للمشاركة السياسية، وتوجه إلى الأنظمة السياسية فيها التهم السابقة نفسها وأكثر·
( تحولت معظم الفضائيات العربية إلى ناطق باسم الشعب العراقي بكل رموزه وطوائفه، وهي تدعو بقوة إلى رحيل الاحتلال، وتندد بالسياسة الأميركية تجاه الخليج، في حين نجد أن الدول الراعية أو الحاضنة للفضائيات تؤيد الولايات المتحدة وترتبط باتفاقيات عسكرية وأمنية معها، وترفض أن تتخذ أي موقف واضح ومحدد تجاه الوضع الراهن في العراق أو تساهم بعرض رؤيتها في مستقبله السياسي·
( تندد أغلب هذه الفضائيات بسياسة الحكومة الإسرائيلية وتطرفها، في حين أن دولاً من التي ترعى هذه الفضائيات تقيم علاقات إيجابية ممتازة سياسياً وتجارياً مع إسرائيل، وتحرص على تقوية هذه العلاقة وتسليط الضوء عليها إعلامياً حتى في الأوقات التي تنتهك فيها إسرائيل كل القوانين والمواثيق وتتحدى المجتمع العربي والدولي باتخاذ أكثر المواقف عنفاً ووحشية·
( أغلب القائمين على الفضائيات الخليجية الرئيسية والشهيرة هم من غير الخليجيين، أي إن دور هذه الفضائيات هو تأجيج الرأي العام العربي من خلال أفكار وأيديولوجيات موجهة إليه بمعزل عن آراء أبناء الخليج ومواقفهم· وتعتمد البرامج بصورة عامة على جنسية مقدمها، حيث يتأثر ذلك الشخص بخلفيته وأيديولوجية حكومته وارتباطاته الشخصية والفكرية، وتبقى دول الخليج مجرد ممول لهذا النشاط من دون فائدة تذكر·
ومن هنا لا أجد تفسيراً لهذه التناقضات الواضحة· فالدول الراعية أو الحاضنة لهذه الفضائيات لديها مصالح سياسية واضحة في أغلبها مع المعسكر الأميركي، حيث إن الولايات المتحدة منذ عام 1971 هي الراعي الوحيد والمنفرد لأمن الخليج، وتعتمد أغلب الدول الراعية أو الحاضنة لهذه الفضائيات على الولايات المتحدة في ضمان أمن واستقرار المنطقة·
لذا، ما الهدف من التحالف السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة والعداء الإعلامي لها في الوقت نفسه؟ لو كانت هذه الفضائيات خاصة وشعبية