ها هو (جيمس بيكر) منطلق إلى التفاوض مع الحلفاء الذين تعرضوا للتنفير، ومناقشة مسألة إسقاط ديون العراق وإعفائه منها، وفي الوقت ذاته يطلق (بول وولفوفيتز) نائب وزير الدفاع الأميركي شعار(التحديد ونتائج التحقيق) المتعلقة بعقود إعادة إعمار العراق، وهو الشعار الذي لا يتعمد فقط استثناء أولئك الحلفاء من إمكانية الاشتراك في تقديم العطاءات، بل إنه يتعمد ذلك بتبني لغة على أعلى درجات العدائية والإساءة. ربما أنني أتجنى بهذا على (بول وولفوفيتز)، لكنني أرى أن عناصر المتشددين في إدارة (بوش) تقوم وعن سبق الإصرار والتصميم بتخريب وتدمير المصالحة وتسوية الخلافات.
ومن المؤكد أن الشك لا يرقى إلى اعتبار ما حدث مندرجاً في خانة حجز العقود لعصبة الأصدقاء والأصحاب الحميمين والمقربين. أجل، إن شركة (هاليبرتون) تسعى في العراق إلى الأرباح الفاحشة، فهل سيعترف المعتذرون أخيراً بهذا ويسلّمون به بعد أن تجد عمليات تدقيق الحسابات التي أطلقها (البنتاغون) أن هناك فعلاً تضخيماً للأسعار؟! إن التقارير توحي بوجود فضيحة تفوح روائحها من برنامج إصلاح وترميم المدارس العراقية الذي تنفذ عقوده شركة (بيكتل)·
غير أنني وجدت دوماً أن المزاعم التي تقول إن السعي إلى جني الأرباح الفاحشة بالاستغلال كان دوماً الدافع إلى شن حرب العراق وليس تلك المزاعم التي تقول إن الحرب كانت تتمحور حول مكافحة الإرهاب. لا، بل إن ثمة دوافع أعمق هنا. إن المبررات الرسمية لسياسة العقود التي أطلقها (وولفوفيتز) على سبيل التسويغ إنما هي مبررات مثيرة للسخرية والاستهزاء، إذ ورد فيها أن(تقييد المنافسة على العقود الرئيسية سوف يشجّع على توسيع نطاق التعاون الدولي في العراق وفي الجهود المستقبلية)- ماذا؟ أية جهود مستقبلية يعني هذا؟- كما ورد أيضاً أن التقييد(ينبغي أن يشجع على استمرار التعاون ما بين أعضاء الائتلاف)· إليكم فيما يلي ترجمة كلامه هذا : نحن بهذا نقدم رشوة للأمم الأخرى لتشجيعها على إرسال جنودها إلى العراق.
إننا نجد في السنة الماضية درساً طويلاً في حدود قوة النفوذ الاقتصادي الأميركي، وهو الدرس الذي بدأ بالإخفاق في الحصول على موافقة الأمم المتحدة على الحرب ووصل إلى التقهقر والتراجع فيما يتعلق بالتعرفة الجمركية المفروضة على واردات الصلب. ويعلم (وولفوفيتز) وكذلك نحن أن الحلفاء القادرين فعلاً على تقديم المساعدة المفيدة لن تتغير الآن آرؤهم ولن يتأرجحوا أمام حفنة من العقود المربحة. وإذا كانت العقود لا توفر لنا قوة النفوذ الاقتصادي، فلماذا إذاً يطلقون على جناح السرعة والعجلة مصالحة محتملة بين أميركا وحلفائها؟ ربما يفعلون ذلك لأن زمرة (وولفوفيتز)لا تريد هكذا مصالحة؟!
إنها أوقات عصيبة تلقي مصاعبها على أكتاف مهندسي (عقيدة بوش) التي تنتهج الانفراد والأحادية والحرب الوقائية الاستباقية. وإن (ديك تشيني) و(دونالد رامسفيلد)، ومن لف لفهما وواكبهما من الزملاء في دائرة (المشروع المعني بالقرن الأميركي الجديد)، قد رأوا العراق في هيئة مشروع رائد، واعتبروا أن من شأن هذا المشروع أن يلقي على آرائهم ووجهات نظرهم لباس الشرعية والمصادقة وأن يفتح أمامهم الطريق إلى تنفيذ المزيد من عمليات تغيير الأنظمة( لكن المشروع المغامر قد انقلب إلى مهمة بغيضة كريهة، وصار الكثيرون من المطلعين على الخفايا وبواطن الأمور يرون في مهمة (بيكر) عملاً يندرج في سياق المساعي التي يبذلها المسؤولون القدماء المخضرمون في إدارة (بوش الأول) نحو انتشال ( بوش الابن) من قبضة كماشة أصحاب النهج المتشدد في إدارته·
ضعوا نصب أعينكم دوماً أن هناك أدلة كثيرة على ممارسة (صقور) الإدارة لسياسة القرصنة وقطّاع الطرق، ومنها مثلاً تلك اللقاءات السرية التي انعقدت في الصيف الماضي وجمعت- من جهة أولى- بين مسؤولي (البنتاغون) العالمين تحت إمرة (دوغلاس فيث) مساعد وزير الدفاع لشؤون السياسة والتخطيط، ومن جهة ثانية إيرانيين تحوم شكوك حول سمعتهم. وتذكروا أيضاً ولا تنسوا أن ثورات غضب المتشددين وانفجاراتهم، التي تحدث بالضبط عندما يبدو أن الساعين إلى المصالحة يوشكون على تحقيق نجاح ما، قد تحولت إلى نمط متكرر.
لقد كان هناك مثال مذهل في شهر أغسطس، إذ بدا أن (كولن باول) قد أقنع (بوش) أخيراً بأننا إن كنا لا نخطط لحرب مع كوريا الشمالية، فإن من المعقول عقد المفاوضات معها. عندئذ طلع علينا (جون بولتون) مساعد وزير الخارجية لشؤون منع انتشار الأسلحة وألقى كلمة عن (كيم يونغ إيل) معلناً فيها أن (الرضوخ لمطالبه الابتزازية من شأنه أن يؤدي فقط إلى تشجيعه ومعه، على نحو ينذر بالشؤم، طغاة آخرين)·
باختصار أقول إن الانهيار الدبلوماسي هذا الأسبوع ربما يعكس صراعاً داخلياً على السلطة يستخدم فيه (الصقور) مسألة العقود لمنع الناضجين الجمهوريين من استعادة السيطرة على السياسة الخارجية. وتقول المؤشرات الأولية إن هذا الاحتكار يعمل بنجاح-أي أن الصقور أفلحوا مرة أخرى في استمداد القوة من ولع (بوش) بالتشكيلات الأخلاقية ا