في المؤتمر السنوي الثاني لمؤسسة الفكر العربي لاحظت أن الفكر العربي ارتفع إلى سقف عال من حرية التفكير والتعبير حتى في أدق القضايا وأشدها إثارة للحساسيات· لقد شعرت أن روحاً مختلفة قد دبت في الجميع سواء أولئك الذين قدموا من دول المغرب العربي وفي مقدمتهم الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة أم أولئك الذين يقطنون المشرق العربي..
إن إحساساً عميقاً بالطمأنينة على مستقبل هذه الأمة غامرني وملأ نفسي بالرضى· فالجميع اعتمد المصارحة منهجاً والمفاتحة والمبادرة إلى طرح التشخيص للمشكلات الكبرى في حياة أقطارنا الداخلية وفي نظامنا العربي وسيلة للانطلاق من الحاضر الراهن المشحون بالإخفاقات إلى مستقبل أفضل· وصور المستقبل التي طرحت كحل لإخفاقاتنا الحاضرة جاءت كلها مدروسة منطلقة من الواقع، بما يعني أن العقل الجماعي العربي قد أصبح قادراً على مواجهة مشكلاته دون وجل أو حساسية· كما أن سعيه إلى بناء مستقبل أفضل لم يعد محلقاً في عالم الأماني المثالية· لقد قدمت حلول تقوم على التدرج وفي إطار الممكن والمتاح لتتقدم على مراحل مدروسة نحو انجاز الطموحات الأكبر·
وعلى سبيل المثال فإن الطرح الذي قدمه الباحثان د· رضوان السيد ود· عثمان الرواف لحل مشكلات الإخفاق والضعف في الأداء في مؤسسة الجامعة العربية والذي توقف عند إصلاح أحوالها وتحقيق هدف التضامن والتعاون، جاء من وجهة نظر أحد المعقبين وهو محمد محمد أبوالعينين رئيس لجنة الاسكان والمرافق في مجلس الشعب المصري ليمثل فقط الحد الأدنى في المرحلة الراهنة· فقد رأى هذا المعقب أن إصلاح الجامعة وإنشاء برلمان عربي أمر قابل للتحقيق في المدى الزمني القصير، أما الطموحات الأكبر فلا غنى عنها ولا تنازل بشأنها· من هنا قدم اقتراحاً بأن يكون برنامج الحد الأدنى أساساً للتقدم تجاه برنامج الحد الأقصى· ورأى أن فكرة الوحدة العربية الاندماجية تعترضها عقبات عديدة حتى في المدى البعيد ومن هنا جعل الهدف الأقصى هو بناء اتحاد عربي على غرار الاتحاد الأوروبي· ذلك أن هذا الهدف يحقق عملية تحويل الأقطار العربية إلى قوة اتحادية كبرى وفي الوقت نفسه يحافظ لكل قطر على سيادته ومصالحه الخاصة ويتجاوز حساسيات عديدة طالما أثارتها فكرة الوحدة الاندماجية· وفي هذا الإطار أشار المعقب محمد أبوالعينين إلى أنه لا يجب أن ننظر بعين التشاؤم والقياس السلبي على طول الخط إلى محاولات الوحدة الفاشلة موضحاً أن هناك نماذج عربية نجحت في الاتحاد وحافظت عليه بتوازنات مقبولة وضرب مثلاً على هذا بدولة الإمارات العربية المتحدة التي تجسد نموذج الأمل على صعيد مصغر للطموح الأكبر على مستوى أقطار الأمة جميعاً·
إذا انتقلنا إلى قضية الإصلاح الداخلي في البحثين الرئيسيين فإننا نجد اقتراباً صريحاً للغاية من جانب الباحث اللبناني د·ر ضوان السيد والباحث السعودي د· عثمان الرواف·
فقد رأى الباحثان معاً أن هناك مآخذ وجوانب سلبية في أوضاعنا الداخلية وفي أداء النظم على نحو أغلب· ويسجل الباحثان كل من مدخله أن هناك تدهواً كبيراً نتج في غالبية الدول العربية عن سوء أداء الإدارة والحكم وهو تدهور يتمثل في انخفاض مستوى المعيشة لمعظم الشعوب العربية وحرمانها من المشاركة في القرار وتفجير مشكلات اجتماعية وفكرية خطيرة تبدأ بالفكر الديني المتطرف وتمر بالبطالة وفراغ الشباب وتنتهي إلى انتشار المخدرات·
ويسجل د·رضوان السيد رؤيته للأوضاع فيرى أن معظم النظم السياسية قد توزعت بين نمطين للحكم· النمط الأول هو النمط التقليدي والنمط الثاني هو النمط الثوري الكارزماتي· ويسجل تحفظاته على النمطين ويعلي من شأن نمط ثالث يسميه النمط الدستوري والقانوني القائم على اكتساب الشرعية من خلال الانتخابات وفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وإعلاء قيمة سيادة القانون·
ويسجل د· رضوان وجهة نظره القاضية بأن أداء النظم في غالبيتها قام في النمط الثوري الكارزماتي حول فكرة وحدانية الزعيم الملهم وأن هذا النمط قد عطل روح المبادرة إلى التفكير السياسي· فكل شيء يوحي به الزعيم يصبح هو الفكر السياسي الحق والصحيح الجدير بالإعجاب والاتباع· من هنا لا يصبح من حق أي مستوى من مستويات القيادة في النمط الثوري الكارزماتي أن يبادر إلى تفكير خشية أن تكون فيه مخالفة لرؤى وأفكار الزعيم الملهم· وينتهي الأمر إلى سيطرة فكر شخص واحد على كافة مؤسسات الدولة وهو ما يعني الجمود التام الذي يقود إلى القرارات الخاطئة وإلى التخلف·
أما النمط التقليدي فيقوم على احتكار القرار· وينتهي د· رضوان السيد في مهمة التشخيص للحاضر القطري إلى أن هذه السمات في الحكم قد أدت إلى تعطل وظائف الدولة في معظم الأقطار وهو تعطل أفرز ثلاثة أوجه رئيسية للخلل، تمثلت في عدم تحسين حياة الشعوب بوتائر عادية وحرمانها من المشاركة في القرار وغياب نظام للعدالة والمساواة فيما بينها بموافقتها وإرادتها·
أما الدكتور عثمان الرواف عضو مجلس الشورى السعودي فيرى أن مشكلة الحاضر السياسي العربي هي انفراد