عندما يقوم رئيس وزراء الصين الجديد ( وين جياباو) بزيارته الأولى إلى الولايات المتحدة خلال الأسبوع الحالي، فإن الموضوعات التي يتوقع أن تحتل صدارة صفحات الصحف- من بين الموضوعات التي سيتباحث بشأنها مع المسؤولين الأميركيين - سوف تشمل الموضوع الخاص بالعجز التجاري المتنامي بين الولايات المتحدة والصين، وكذلك موضوع تقييم سعر (اليوان)، وموضوع ( تايوان)، وأخيرا موضوع الحرب على الإرهاب· بيد أن الموضوع الأكثر أهمية، والذي يخيم بظلاله على العلاقات بين الدولتين، والذي يجب أن يحظى بقدر من الاهتمام لا يقل عن الموضوعات السابقة ، هو ذلك الخاص بالتوجه الجديد في السياسة الخارجية الصينية والمسمى (الصعود السلمي للصين)·
و تلك السياسة التي تم الإفصاح عنها مؤخرا، ستكون لها تداعيات عميقة على قارة آسيا من جهة وعلى الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، لأنها تأتي خلال فترة من فترات الأفول النسبي لهيبة أميركا، ونفوذها في قارة آسيا·
ويذكر أن سياسة (الصعود السلمي للصين)، كانت قد طُرحت على قارة آسيا من قبل الرئيس الصيني (هو جيناتو)، وذلك خلال جولته في جنوب شرق القارة في شهر أكتوبر الماضي، التي تمت مباشرة عقب الزيارة التي قام بها بوش إلى المنطقة في الشهر نفسه·
وفي الواقع أن اختلاف نبرة الخطاب بين الرئيسين، ما كان يمكن أن يكون أكثر لفتا للأنظار عما كان عليه بالفعل· كانت الرسالة الصينية باختصار هي : (نحن هنا من أجل تقديم المساعدة لكم)، أما الرسالة الأميركية فقد كان فحواها هو: (أنكم إما أن تكونوا معنا، أو تكونوا ضدنا في الحرب على الإرهاب)· وليس من الصعب علينا أن ندرك على ضوء ذلك، أياً من الرسالتين كانت تمثل استراتيجية دبلوماسية أكثر فاعلية من الأخرى· وتتأسس سياسة (الصعود السلمي للصين) - التي تتبنى خيار العولمة باعتباره من الخيارات الحتمية التي سيواجهها النمو الاقتصادي الصيني- على عدة مرتكزات أساسية هي : الاقتصاد الصيني المحلي، والأسواق الدولية، والأسلوب السلمي الصريح ، وتجنب فرض الهيمنة على دول القارة أثناء السعي للصعود إلى الأعلى· والصين تقوم بتقديم هذا الصعود باعتباره يمثل جزءا لا يتجزأ من دورها العام في تنمية قارة آسيا، وتحقيق الاستقرار فيها · والرسالة التي ترسلها الصين في هذا الخصوص هي رسالة غاية في القوة كما نرى، لأنها تمثل اشتباكا صينيا لم يسبق له مثيل في شؤون القارة الآسيوية، التي لا تزال تمر بمرحلة التعافي من الأزمة الاقتصادية الصعبة التي تعرضت لها دولها في أواخر عقد التسعينيات من القرن المنصرم·
وسياسة الصعود السلمي للصين مصممة في الأساس لمواجهة مخاوف وهواجس الدول الآسيوية العميقة تجاهها، باعتبارها تشكل منافسا شرسا لها في مجالات التجارة والاستثمارات، والوظائف· ومما يلاحظ في هذا السياق أن الاستثمارات الصينية في القارة تتزايد بشكل مطرد·· كما يلاحظ أيضا أن العلاقات التجارية الثنائية بين اتحاد أمم جنوب شرق آسيا (الآسيان) وبين الصين، قد ازدادت بنسبة ستة أضعاف خلال العقد المنصرم، كما أن الصين تعرض على دول المنطقة العديد من اتفاقيات التجارة الحرة·
ورئيس الوزراء الصيني (وين جياباو) يأتي إلى أميركا في وقت أوشكت فيه الصين على إتمام صفقات مع شركة ( بوينج )، وغيرها من الشركات الأميركية الأخرى المهمة· كما يذكر كذلك أن الصين قد قامت بتنصيب نفسها كوسيط أمين، في المباحثات التي تدور حاليا حول الطموحات النووية لكوريا الشمالية·
وكل ما سبق يعتبر من قبيل التطورات المهمة والإيجابية، التي يجب الاعتراف بقيمتها وأهميتها من جانب الولايات المتحدة الأميركية· فالقادة الصينيون يحاولون مستخدمين في ذلك قدراً كبيراً من الذكاء ، إزالة جميع المخاوف التي تساور الدول الآسيوية كلها والولايات المتحدة الأميركية أيضاً، تجاه النمو الصيني السريع والمطرد· ولكن هذه المحاولات الصينية، والنجاح الملحوظ الذي تحققه ، تترك الولايات المتحدة على الجانب الآخر، وهي تعاني شعورا ذاتيا بعدم الارتياح تجاه النهج، الذي تتبعه في التعامل مع الصين ومع دول القارة الآسيوية على وجه العموم·
والشيء الذي يجعل الولايات المتحدة تستشعر ذلك، هو إدراكها أنه في الوقت الذي تواصل فيه الصين ( صعودها السلمي) وفقا للاستراتيجية التي تتبعها ، فإنها- أي الولايات المتحدة - قد قامت بارتكاب خطأين واضحين· الخطأ الأول، هو أنها تقوم بالتعامل مع دول القارة في القضايا التي تعتبرها مهمة من وجهة نظرها فقط، و تترك ما عدا ذلك· والخطأ الثاني، هو أنها تتجاهل التحول الصيني في العلاقات مع دول القارة· وكانت النتيجة المحتمة لهذين الخطأين، اللذين ما كان يجب على واشنطن أن تقع فيهما، هو أنها قد بدأت تفقد احترامها ومكانتها ونفوذها لدى دول القارة، كما تدل على ذلك ظواهر عديدة، وخصوصا في منطقة شرق القارة الآسيوية· والمفارقة هنا هي أن الولايات المتحدة - وليست الصين- هي التي تعهدت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بتحقيق التنمية والرخاء و