هناك جملة كبيرة من الانتقادات الموجهة لإدارة بوش هذين اليومين، بسبب المفاجآت غير السارة التي اعترضت سبيلها، وهذه لا تقتصر على وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر فحسب، وإنما يضاف إليها هروب قيادات تنظيم (القاعدة) وبقايا حركة (طالبان) عقب الحرب على أفغانستان، وتجميع صفوفهم من جديد. وهناك أيضا المواجهة الفرنسية الحادة داخل أروقة الأمم المتحدة في الأيام السابقة لشن الحرب على العراق، تضاف إليها مفاجأة الرفض التركي للتعاون مع قواتنا وفتح أراضيه لشن هجوم على العراق من الجبهة الشمالية في الوقت المناسب لذلك. ودونك حملة الاغتيالات الشرسة المنظمة التي يقودها بقايا نظام صدام حسين وحزب البعث ضد الجنود الأميركيين في العراق، إضافة إلى تصاعد الغضب الشعبي العام وضيق الصدر إزاء استمرار الوجود الأميركي في العراق.
ولما كان الحال كذلك، فلم لا نتساءل عما إذا كانت الإدارة قد اتخذت بعض قراراتها عن عمى وعدم قدرة على رؤية بعض الزوايا، نتيجة لضعف ونقائص أداء الأجهزة الاستخباراتية؟ أم أن المشكلة تكمن في ضعف الأداء التنسيقي لمجلس الأمن القومي، الذي يفترض فيه أن ينسق بين أداء كافة الأجهزة والهيئات الأمنية والاستخباراتية والدفاعية والدبلوماسية في البلاد؟
الواقع هو أن ما من أحد من تلك الأحداث مجتمعة، كان مفاجئا لأحد أو جهة ما من الجهات المعنية. فقد تم التنبؤ بها جميعا في عدة تقارير سابقة لوقوع أي من الأحداث المذكورة آنفا. وبعض هذه التقارير أعده مجلس الأمن القومي نفسه! لم تكن المشكلة لتتصل ببعد النظر إذا، بقدر ما كانت ذات صلة ببعد التفكير. ولا يزال على إدارة بوش، شأنها شأن إدارة كلينتون السابقة لها، بحاجة لتقييم واتخاذ قرارات مسبقة إزاء ما يبدو لها من أمور وأحداث، يتوقع لها أن تقع في المستقبل المنظور. العيب إذا ليس في مجلس الأمن القومي، وإنما في النهج الذي دأبنا عليه في تنظيم أنفسنا وحشد طاقاتنا لمواجهة المستجدات والمتغيرات التي تطرأ على المسرح الدولي والقومي، علما بأن هذا النهج قد تعودنا عليه منذ سنوات الحرب الباردة. فعبر ما يقارب الخمسين عاما، اعتاد صناع القرار في الولايات المتحدة الأميركية على الاعتماد على نهج (التخطيط الاستراتيجي). وهو نهج يقوم على تحديد الأهداف والنتائج المرجوة مسبقا، ثم دفع كل القرارات التي يتم اتخاذها باتجاه تحقيق تلك النتائج والأهداف المحددة مسبقا. وقد أدى هذا النهج دوره على أحسن ما يكون في ظل الثنائية القطبية التي سادت حقبة الحرب الباردة، بسبب أن التخطيط الاستراتيجي كان يستمد ويستقرئ قراراته من بيئة أمنية دولية مستقرة وثابتة نسبيا. وكان ذلك النهج يعتمد بدرجة كبيرة على استقراءات أمنية واستخباراتية متعارفة، ومتفق عليها في معظم الأحيان. وما كان على الحكومات إلا أن تقدر الاحتمالات الأرجح حدوثا لوقائع وتطورات المستقبل، وترسم خططها وسياساتها وقراراتها عليها. بيد أن عالمنا عالم اليوم، شهد تحولات دراماتيكية كبيرة، أولها أنه لم يعد مركزيا كما كان. وفي عالم كهذا غدا ممكنا للاعبي الأمس الهامشيين أن يلعبوا أدوارا رئيسية ومؤثرة فيه. وبالتالي فإن نهج التخطيط الاستراتيجي سيترك المعنيين باتخاذ القرار وصنعه بلا سند أو حائط يتكئون عليه، في بيئة أمنية متغيرة كهذه. النتيجة النهائية لهذا، هو عجز المسؤولين وصناع القرار عن التكيف على مستجدات ومتغيرات العالم الجديد، سيما وأن هذه المتغيرات تتم على درجة من الفجائية والسرعة والمباغتة.
فعلى سبيل المثال ووفقا لنهج التخطيط الاستراتيجي المتبع، كان من المفترض أن نطمئن إلى أن صدام حسين لن يتمكن من الحصول على القدرات النووية التي يتطلع إليها إلا بعد مضي ما بين خمس إلى سبع سنوات، طالما أن برامجه السابقة في هذا المجال قد تم تدميرها وإيقافها بواسطة فريق المفتشين الدوليين منذ عام 1995· غير أنه أصبح من الصعوبة بمكان الاطمئنان لقرار أو تقدير كهذا في ظل عالمنا الراهن، الذي أصبح فيه ممكنا لصدام حسين وأمثاله، تحقيق مآربهم بطرق أخرى، من بينها شراء الأسلحة النووية بطريقة غير مشروعة من أحد الأسواق السرية غير المشروعة لهذا النوع من السلاح. فإذا ما اعتمدنا على التخطيط الاستراتيجي، ونمنا قريري العين، لربما فاجأنا صدام النووي وأصبح خطرا تصعب مواجهته وكبح جماحه.
ولهذا السبب كانت إدارة الرئيس كلنتون- التي سبق لي أن عملت فيها- قد تجاوزت نهج التخطيط الاستراتيجي هذا، ورفضت العمل به. غير أن الإدارة المذكورة لم تستبدل ذلك النهج القديم بنهج جديد يحل محله. وهذا سر مفتوح، أطلع عليه مجلس الأمن القومي وإدارة التخطيط الاستراتيجي التابعة له.
وعليه فإن الواجب الأمني المطروح أمامنا الآن، في هذا العالم الذي يسوده عدم اليقين والحذر من المجهول، هو ألا نلغي أهمية الاستقراء والتكهن البسيط بما سيحدث. ولكن علينا في الوقت ذاته، أن نشحذ قدراتنا وأذهاننا أكثر من أي وقت مضى، في تدبر ما تم استقراؤه والتنبؤ به سلفا، والتفكير المسبق بما