أتت رحلة الرئيس (جورج دبليو بوش) السرّية، التي قام بها يوم عطلة عيد الشكر إلى العاصمة العراقية بغداد، في أواخر الشهر الأكثر دموية بين الشهور على سلطة وقوات الائتلاف المتواجدة هناك منذ بدأت حرب العراق في مارس 2003، إذ لقي 109 من أفراد قوات الائتلاف الذي تتزعمه الولايات المتحدة مصرعهم في أثناء شهر نوفمبر.
كانت لزيارة (بوش) تلك أغراض عديدة، غير أن أكثرها أهمية كان تعزيز الروح المعنوية للقوات الأميركية في الميدان، إذ كانت في الصحافة الأميركية قبل تلك الزيارة انتقادات متنامية تتمحور حول عدم رغبة الرئيس على ما يبدو في تقديم طقوس الاحترام الرسمي للجنود الأميركيين الذين تمت إعادة جثثهم إلى الولايات المتحدة لدفنها هناك. وخلافاً لسلفيه الاثنين المباشرين، أي (بيل كلينتون) ووالده (جورج بوش الأب)، لم يظهر الرئيس (جورج بوش الابن) على شاشات التلفزة في قاعدة (دوفر) التابعة لسلاح الجو الأميركي، وهي الموقع المعتاد الذي تحط فيه الرحال توابيت القتلى العائدة من ميادين القتال الخارجي. ويعتقد المراقبون أن (بوش) لا يريد أن تراه الأعين في مناسبات كهذه خشية أن يكون في ذلك تذكرة للجمهور الأميركي بأن الحرب أبعد ما تكون عن النهاية. ولذلك برهن (بوش) يوم 27 نوفمبر، وبتعريض نفسه للمخاطر، على جرأته وكبير احترامه للمهمة التي تقوم بها القوات الأميركية في العراق.
غير أن المشكلات التي ترافقت مع تلك الزيارة كانت كبيرة، إذ أنه لم يمكث في بغداد إلاّ ساعات قليلة، ولم يلتق إلاّ بثلاثة من العراقيين كلهم أعضاء في مجلس الحكم العراقي. ولم يقابل (بوش) أيضاً أحداً من جنود قوات الدول الأخرى المنخرطة في الائتلاف، ولم يغادر بغداد من مطارها ولذلك لم تكن لديه أية انطباعات مباشرة عن الأوضاع في بغداد، ناهيك عن الأوضاع في بقية مناطق البلاد. وتثير زيارة بغداد تلك في الذاكرة صور الزيارات الأخرى التي قام بها (بوش) إلى آسيا وبريطانيا، حيث شكّلت الإجراءات الأمنية الهاجس الطاغي إلى درجة أن (بوش) لم يحتك إلاّ بقلة قليلة مختارة من الأفراد. وقد أدت متطلبات الإجراءات الأمنية المشددة إلى توليد انطباع بأن حاشيته عاشت آنذاك في حالة حصار.
وعلى رغم ذلك تكللت الرحلة في منظور الشعب الأميركي بمقدار من النجاح يكفي لضمان تصدرها عناوين الأخبار لمدة 24 ساعة وطغيانها على شهرة الزيارة التي قامت بها سيناتور نيويورك (هيلاري رودهام كلينتون). وقد حدث أنه ليس في وسع (كلينتون) إلاّ توجيه الشكر إلى (بوش) لقاء زيارته الجنود الأميركيين. وتحدو البيت الأبيض آمال بأن الصور التي تم التقاطها لـ(بوش) وهو يقوم بتقديم طعام عشاء عيد الشكر، سوف تكون تعويضاً عن آثار الصور التي تم التقاطها له وهو على متن حاملة الطائرات (أبراهام لينكولن) التي زارها يوم 1 مايو، حيث ظهر في الصورة أمام شعار تقول كلماته (تم إنجاز المهمة). غير أن الزيارة لن يكون لها في أية حال أثر دائم في الوضع داخل العراق إذ أنه يبقى شديد الخطورة. فإذا اقترب عدد الإصابات في صفوف قوات الائتلاف في شهر ديسمبر من عددها في شهر نوفمبر، فإن إدارة (بوش) ستكون في مأزق كبير وخطير وسوف تشتد عليها صعوبة إقناع البلدان الأخرى بإرسال قوات أو مدنيين إلى العراق، بسبب انعدام شعبية الحرب بين جموع سكانها.
إن ما يرجو (بوش) تحقيقه الآن هو أن العمليات القتالية المكثفة التي تنفذها القوات الأميركية سوف تؤدي إلى تحطيم الإرهابيين في المثلت السنّي، وأن تؤدي مع مرور الوقت إلى خلق بيئة أقل عدوانية مع استعداد البلاد للعودة إلى تملك السيادة المستقلة.
والمأزق هنا يتجسد في أن الفئة السنّية هي المجموعة التي سيكون على أعلى درجات الصعوبة إرضاؤها فيما يتعلق بالنتائج السياسية التي تجري مناقشتها بين العراقيين السنّة الذين يخشون فقدان السلطة والنفوذ مهما تكن ماهية الترتيبات الدستورية التي سيجري اتخاذها من أجل اقتسام السلطة على نحو عادل. ويأتي ذلك بطبيعة الحال من أن هذه الفئة تشكل الرافد الأكبر للقوات المناوئة للاحتلال الأميركي، وهو أيضاً يتزامن مع إثارة الزعيم الشيعي غير الرسمي آية الله علي السيستاني لاعتراضات على اقتراحات سلطة الائتلاف المؤقتة ومجلس الحكم العراقي بتسليم السلطة إلى العراقيين بحلول نهاية شهر يونيو من العام القادم 2004 دون إجراء انتخابات وطنية، إذ أن السيستاني يعلم أن لدى الشيعة ورقة رابحة هي أعدادهم الكبيرة.
إن من السابق جداً لأوانه أن نجزم بما إذا كان قطع العلاقات بين الشيعة وسلطة الائتلاف المؤقتة سيحدث فعلاً، غير أن ذلك يشكل دون شك سبباً آخر يبرر جعل الإدارة الأميركية في موقع الذل والإهانة بسبب أحداث شهر نوفمبر.