بينما كان ياسر عبد ربّه -مع فلسطينيين كثيرين من منظمة التحرير ومن خارجها- يتجه إلى جنيف للتوقيـع على وثيقتها بشأن حلّ مقترح للقضية الفلسطينية، مع مجموعةٍ من الإسرائيليين من حزب العمل واليسار والمستقلين - كان فلسطينيون آخرون يتوجهون إلى مدريد للحديث مع إسرائيليين وأوروبيين وأميركيين عن السلام أيضاً· وهناك فروقٌ عديدةٌ طبعاً بين الرحلتين والحديثين واللقاءين. الذاهبون إلى جنيف، كانوا قد التقوا في حلقاتٍ صغرى أو كبرى لعدة أشهر؛ بين إسرائيل والأردن وسويسرا والقدس ولندن. وهم عندما ذهبوا إلى جنيف كانوا قد اتفقوا على النصّ النهائي، ولذلك حرصوا على إحاطته بأجواء احتفالية بدعوة أوروبيين كثيرين وأميركيين كثيرين، وراعوا في ذلك الرمزية والتاريخية عندما أحضروا الرئيس كارتر (بطل كامب ديفيد الأولى)، والاتحاد الأوروبي. لكنّ الذين وقعوا على النصّ المتفاوَض عليه من قبل اقتصروا طبعاً على الفلسطينيين والإسرائيليين. وفي حين ما أتى مع الإسرائيليين يمينيٌّ واحدٌ، أو قريبٌ من الحكومة الحالية، ما كان الفلسطينيون من منظمة التحرير فقط؛ بل ومن المقربين من الرئيس عرفات، ووزراء من حكومة أبو علاء الحالية.
أما الذاهبون إلى مدريد، فقد أرادوا أن يحضروا مؤتمراً للحديث عن السلام. وقد حضر ذلك المؤتمر من جديد رجالاتٌ من منظمة التحرير، ومقـرَّبون من عرفات، وفلسطينيون من أراضي الـ48، وحضر من الجانب الإسرائيلي يمينٌ ويسارٌ وليبراليون. وفي حين جاء الناس إلى جنيف لتوقيع وثيقة سلام، كانت مدريد فُرصةً للأميركيين والإسـرائيلييـن من جديـد ليوضحوا للفلسطينييـن والأوروبييـن (واجباتهم تجاه عملية السـلام)، كما قال أحد نواب (الليكود) الحاضرين. أما مارتن أنديك الشهير الذي كان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل أيام كلينتون، والذي شارك في المفاوضات إلى جانب دنيس روس وأرون ميللر وآخرين، فقد ظهر متبجحاً في مدريد، وقال للأوروبيين ما معناه إنكم لا تستطيعون القيام بدورٍ في المفاوضات لأنّ الإسرائيليين لا يثقون بكم؛ بينما يثقون بنا نحن. ولا سبيل إلاّ خريطة الطريق، التي على الفلسطينيين أن ينفّذوا التزاماتهم للبدء بها! وهكذا، فبينما كان الفلسطينيون في اليوم الأول في مدريد يقولون إنهم إنما أتوا ليوضحوا للمرة المليون وجهة نظر الفلسطينيين الذين تظلمهم أجهزة الإعلام، وتظلمهم الولايات المتحدة حين تُلحق فصائلهم بالحرب على الإرهاب، تحولوا في اليوم الثاني إلى التأكيد على حقوقهم وشروطهم للمفاوضات والسلام، وانفضّ المؤتمر بدون مناقشاتٍ حقيقية، على رغم قوة رمزية مدريد .
قوبلت وثيقة جنيف، ومحادثات مدريد ، باستنكارٍ كبيرٍ من جانب شارون وحكومته، ومن جانب الأحزاب الفلسطينية الكبرى الداخلة في منظمة التحرير (مثل الجبهة الديمقراطية، والجبهة الشعبية، وكتائب الأقصى التي هي جزءٌ من فتح)، وتلك غير الداخلة في المنظمة (مثل حماس والجهاد الإسلامي). شارون وصل به الأمر إلى اتهام الإسرائيليين المشاركين في جنيف بالخيانة، والأوروبيين الذين يعملون من وراء ظهر حكومته بالعداء للسامية ، تماماً مثل المسلمين في أوروبا والذين يشكّلون خطراً على اليهود ، كما قال. وهو ما كان مسروراً بأنّ أصدقاء له راحوا لمدريد للقاء (جماعة عرفات)؛ لأنّ معنـى ذلك البدء بمفاوضاتٍ من نوعٍ ما، على رغم عدم وفاء الفلسطينيين بمتطلبات ذلك: القضاء على الإرهاب ، وإزاحة عرفات! ولذا فالواضحُ لهذه الجهة أمران: أنّ الأوروبيين (وربما الأميركيين) يشعرون بضرورة فعل شيءٍ بشأن النزاع الفلسطيني/ الإسرائيلي، نتيجة الفظائع الإسرائيلية الشارونية التي ما عاد أحدٌ يستطيع السكوت عليها، ونتيجة الضيق والافتضاح الأميركي بالعـراق؛ من أجل الوصول إلى تهدئةٍ من نوعٍ ما في مكانٍ ما. إذ صار مسلَّماً لدى مراقبين دوليين كثيرين أنها حربٌ علـى العرب في كلّ مكانٍ، هذه الحرب على الإرهاب. فالحلول الكثيرة المطروحة أو المقترحة، واللقاءات غير الرسمية الكثيرة، وغالباً على الأرض الأوروبية، تعبير عن هذا الهمّ حول الشرق الأوسط المتفجر. وهذا كلّه يشكّل ضغطاً ولا شكّ على شارون وحكومتـه. فقد أتاح له الأميركيون فرصةً طال أمدها. ليس لضرب الانتفاضة فحسْب؛ بل ولإنهاء القضية الفلسطينية بالقوة؛ لكنه ما استطاع شيئاً من ذلك . وهذا سببه شراسة المقاومة الفلسطينية، وأنّ شارون لا يمتلك فعلاً بدائل سياسية ولا يؤمنُ بها؛ بينما لا تستطيع الجهات الدولية مهما بلغ انحيازُها لإسرائيل، أن تقبل استمرار هذه الحرب الجهنمية التي تأكل الأخضر واليابس. والمعروف أنّ روسيا تدخلت أيضاً قبل أسبوعين ، وجلبت خريطة الطريق أمام مجلس الأمن فتبنّاها دونما اعتراضٍ من الأميركيين الذين كانوا في الأصل ضدّ الموضوع.
وإذا كان شارون واليمين الإسرائيلي ضد وثيقة جنيف، للأسـباب التي ذكرناها، فلماذا تقف ضدَّها أكثرية التنظيمات الفلسطينية؟ لذلك أسبابٌ مضمونيةٌ وأُخرى سياسية . أما الأسباب المضمونية فتتصل بالموضوعات الاربعة والتي جرى تأ