فاجأت الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها العقيد الدكتور جون قرنق، فاجأت المجتمع السوداني حكومة وشعباً بقرارها إرسال وفد سياسي من عدد من قيادييها للقيام بزيارة للخرطوم قد تتم خلال هذا الأسبوع أو مطلع الأسبوع المقبل· وعنصر المفاجأة هنا أن هذا التنظيم الجنوبي ظل معروفاً بطابعه العسكري طيلة العقدين الماضيين ولم يكن مسموحاً له بأي نشاط سياسي في السودان الشمالي، بل كان الانتماء إليه يعد جريمة في مرتبة الخيانة العظمى·
وما كان في مقدور الحكومة السودانية أن ترفض طلب الحركة للقيام بهذا النشاط السياسي في الشمال بعد أن وصلت المفاوضات الجارية بينهما مستوى متقدماً قريباً من النتيجة المرتقب تحقيقها وقبل مطلع العام المقبل·
إن زيارة هذا الوفد للخرطوم، متى ما حدثت، ستشكل رصيداً إيجابياً للحركة الشعبية في العاصمة السودانية التي تمثل القلب بالنسبة لبقية القطر· ولا شك عندي أن الجماهير التي ستتجمع للاستماع لهذا الوفد لن تقتصر على المواطنين الجنوبيين المقيمين في العاصمة، وهم بمئات الآلاف، بل ستشمل أعداداً كبيرة من جماهير أبناء الشمال يرون في الدكتور قرنق وحركته منفذاً للخروج من مأزق الحكم الأحادي ووسيلة من وسائل الانتقال للديمقراطية والحريات·
وهكذا فإن حركة قرنق تحقق مكسباً سياسياً آخر يضاف إلى ما حققه جهدها الدبلوماسي وتحرك وفودها التي غطت عدداً من العواصم في الشرق والغرب خلال الأسابيع الأربعة الماضية·
ويتزامن هذا التقدم من جانب هذه الجماعة مع ما يشبه العكس في داخل أروقة قيادة نظام الحكم التي بدأت وحدتها في الاهتزاز وعدم الاستقرار· وفي هذا الفصل فإن أوضح مثال على ذلك استقالة الدكتور غازي صلاح الدين الذي كان هو المسؤول الأول عن ملف السلام ويعد ضمن الخمسة الكبار في قيادة حكم الإنقاذ· ولم يخف الدكتور غازي في تصريحاته للصحف أن هناك خلافاً في قيادة الحكومة حول عدد من القضايا المتعلقة بالاتفاق مع حركة جون قرنق· ثم إنه لم يعد سراً أن الدكتور غازي صلاح الدين أجرى خلال الأيام التي سبقت إعلان قبول استقالته اتصالات مع الدكتور حسن الترابي الذي يعتبره نظام الحكم أخطر أعدائه في هذه المرحلة·
إن كل خطوة تتم نحو الوصول إلى الحل وتعديل وضع الحكم في السودان يلازمها قدر من اضطراب الصفوف داخل الحزب الحاكم وقيادته المنفذة، ولعل ذلك يعود في الأصل إلى الوجل من المستقبل وما يخفيه الغد· ولا غرابة في ذلك لأن بعض أولئك القادة بدأوا يؤمنون بما وصل إليه الدكتور الترابي من استحالة حكم السودان بالقهر ومن على صهوة حزب أو جواد واحد، في حين يرى فريق آخر أن التشبث بكراسي الحكم والعمل على البقاء فيها لأطول أمد ممكن هو الضمانة الوحيدة لمستقبل لا يكون فيه حساب ولا عقاب·
إنه واحد من مظاهر مخاض المرحلة التي يمر بها السودان·