شهدت السنوات القليلة الماضية محاولة جريئة تهدف إلى إحياء شهرة السيناتور جوزف راياموند مكارثي اليميني الجمهوري (1908-1957) الذي أدت تحقيقاته حول مسألة الشيوعية في عقد الخمسينيات إلى ممارسات أميركية شائنة باتت معروفة بمنهج المكارثية- وهي كلمة باتت بحكم الإشارة إلى أولئك الذين لطخوا سمعة خصومهم بالزور والتزوير، وحطموا حياتهم المهنية وعمدوا إلى التشهير بهم ورميهم بمختلف الاتهامات لمجرد التعاطف مع الشيوعية· وقد بدأ نيكولاس فون هوفمان، الكاتب الليبرالي في صحيفة واشنطن بوست، مراجعة هذا السلوك في مقالات له عام 1996 قال في إحداها: إن جو مكارثي أخطأ في ممارساته تلك كلها،وعلى رغم ذلك كان أقرب إلى الحقيقة من أولئك الذين سخروا منه· وفي عام ،2000 قدم المؤرخ الأميركي آرثر هيرمان سيرة حياة السيناتور مكارثي في كتاب أتى كمحاولة لتبرئة مكارثي والدفاع عنه· وأتت الكاتبة آن كولتر مؤخراً لتجعل من مكارثي بطلاً في كتابها الخيانة العظمى وفيه أكدت على أن صورة مكارثي كشخص ديماغوجي يعمد إلى تدمير حياة الأبرياء ليست إلا تخويفاً ليبرالياً صرفاً· وتقول كولتر: كان جو مكارثي هو ما تحتاج إليه البلاد، بل وصفته أيضاً بـالرجل الشجاع الذي سمع الأميركيون من فمه الحقيقة·
أما أولئك الذين يصدّقون هذا الهراء فإن من الأجدى لهم أن يقرؤوا كتاب الحُمْر للكاتب تيد مورغان، الذي اخترناه لهذه المساحة الأسبوعية· إنه كتاب جدير باهتمام أولئك الذين يقفون على أقصى اليسار ويؤمنون بعدم وجود أي تهديد شيوعي على أميركا في تلك الفترة ويرون أن مناهضة الشيوعية، التي كان مكارثي وشركاه أوضح مثال عنها، قد أبعدت أميركا عن المستقبل التقدمي؛ وهو كتاب جدير أيضاً باهتمام أولئك الواقفين على أقصى اليمين ويؤمنون بأن المكارثية لم تكن موجودة بل ابتكرها الليبراليون وأتباع الحزب الديمقراطي للتغطية على استرضائهم للشيوعية· وخلافاً لآراء هؤلاء وهؤلاء، يأتي مورغان ليقدم الفهم الصحيح للمسألة في كتاب يعرض أمامنا إطلالة شاملة ودقيقة على مواجهة أميركا مع الشيوعية في الداخل والخارج، وهو يتوصل إلى استنتاجات سوف تتحدى بل وستثير حفيظة الكثيرين لكنها تتميز بعلامة التأريخ المؤسس على أرض صلبة·
يبدأ مورغان سرد القصة بعام ،1917 عندما كانت الولايات المتحدة مرغمة على التعامل مع تأثير قدوم البلشفية إلى مسرح العالم· سنجد أن غاية المؤلف بسيطة، وتتلخص في أن أميركا شهدت، منذ العقد الأول من القرن العشرين رجالاً استغلوا مسألة الشيوعية لتحقيق الفائدة السياسية، فلطخوا بكل طيش وتهور سمعة خصومهم باتهامات باطلة·
وفي الوقت ذاته، ومنذ بدأ لينين إصراره على أن أتباعه في أنحاء العالم يقبلون بدورهم ككوادر وأعضاء موالين للدولة السوفييتية، صار الحزب الشيوعي الأميركي يقوم بدور مَجْمَع تجنيد للعملاء السوفييت، الذين نجح الكثير منهم في تحقيق الاختراقات والوصول إلى أرفع المستويات في الحكومة الأميركية، كما نجح البعض منهم في سرقة الأسرار العسكرية والصناعية الأميركية· ومنذ بدأت الغارات في عام 1918 للقبض على المهاجرين الغرباء الراديكاليين في سلسلة من الاعتقالات الجماعية- التي يصفها مورغان بأنها كانت مساع لتخليص البلاد من خطر حقيقي راديكالي-أدى الجدل القائم إلى تحريض أولئك الذين رأوا أن الحاجة الوحيدة كانت إلى إنقاذ الحريات المدنية، كما أدت إلى تأليبهم ضد من رأوا أنها ضرورية لإنقاذ البلاد من راديكاليين خونة· لكن مورغان يرى أن كل واحد من الطرفين قد استند إلى أنصاف الحقائق، باعتبار أن الحريات المدنية تعرضت للانتهاك بسهولة في سياق مطاردة الراديكاليين، وفي الوقت ذاته تجنب الكثير من الواقفين على جهة اليسار التعامل مع واقع التجسس الخطير الآتي من الاتحاد السوفييتي ورأوا أن أية محاولة منهم للتعامل مع ذلك الواقع إنما هي محاولات عنيدة للإيقاع بهم في تهمة الشيوعية·
وعندما اعترفت إدارةروزفلت بالنظام السوفييتي في عام ،1933 انتهز ستالين الفرصة للترتيب لعملية تسلل جماعي للعملاء السوفييت إلى أميركا باستغلال إصلاحات روزفلت السياسية التي يرى مورغان أنها كانت في بعض النواحي مواتية للتجسس السوفييتي· وتتوالى الأحداث تباعاً ويحقق السوفييت الاختراقات التي أرادوها ويشكلون شبكة تجسس كبيرة من العملاء يسهب الكتاب في استعراض نشأتها وتطورها ونشاطاتها·
ودخل السوفييت والأميركيون في دائرة حلف واحد ضد النازية، ثم ظهر مكارثي وسطع نجمه فاستغل الفراغ الذي تركته الحرب الباردة التي بدأت في عام ·1948 ويقول موغان إن الظروف السابقة واللاحقة قد تمخضت عن إنتاج ما يسميهمورغان بـالغزو السوفييتي لأميركا· ومن المفارقات أن يتزامن بروز مكارثي مع الانهيار الفعلي للشبكة السوفييتية، حيث تعرضت لضرر بالغ بعد أن انقلبت عليها العميلة إليزابيث بينتلي وأفشت ما لديها من معلومات لمكتب التحقيقات الفيدرالي· ولولا هذه الحادثة لكان من الممكن أن يتمالقضاء على المكارثية في مهدها، ولما استطاع مكارثي العزف عل